الحوارنيوز – صحافة
تحت هذا العنوان كتب نبيه البرجي في صحيفة الديار :
“المسألة لم تكن تستدعي أكثر من زيارة الليدي غاغا لموسكو والتجول في شوارعها، لكي تسقط أسوار الكرملين”. هذا رأي الباحث الاقتصادي الأميركي جيمس غالبريث، آخذاً على جو بايدن الغباء الاستراتيجي “حين أيقظ الدب القطبي من البيات الشتوي”.
هيلين كارير ـ دانكوس، المتخصصة في الشؤون السوفياتية (والروسية)، كانت قد لاحظت أن الاتحاد السوفياتي لم يتفكك بقرع الطبول. ساقا مارلين مونرو يختزلان ثقافة الحياة في الولايات المتحدة، وهي الثقافة التي تسللت حتى الى رؤوس القادة السوفيات، بعدما كانت الايديولوجيا الشيوعية قد أصيبت بالشيخوخة وحتى بالتعفن، حتى إذا أطلق ميخائيل غورباتشوف البريسترويكا (اعادة الهيكلة) والغلاسنوست (الانفتاح)، تساقطت مفاصل الدولة الواحد تلو الآخر.
من أطرف ما يقوله الباحثون الأميركيون في الشؤون الروسية، ان وكالة الاستخبارات المركزية أثنت على بوريس يلتسين لاختياره فلاديمير بوتين، كشخصية مؤهلة لتسليم مفاتيح الكرملين الى البيت الأبيض. الوكالة رأت فيه الرجل الآتي من “غرفة الصقيع”، أي من الـ”ك.ج.ب” في ألمانيا الشرقية، دون أي خيال سياسي وأي ثقافة سياسية، دون أن تدري ما كان شعوره حين راحت المطرقة تهوي على جدار برلين. انه شعور من دمرت المطرقة عظامه بتدمير الأمبراطورية السوفياتية.
هذا ما جعله يخطط لإحياء “روسيا المقدسة” أو “روسيا العظمى”، لكن بوتين الذي رأى الفارق بين ما أنتجته الماركسية وما أنتجته الليبرالية، لم يكن يعرف من أين يبدأ بناء الدولة. تشابك معقد بين عصابات المافيا وأجهزة الاستخبارات، التي حولت موسكو الى مسرح لعملياتها، ليس فقط لتصفية التركة السوفياتية، وانما لوضع اليد حتى على السلطة في روسيا.
المفكر الروسي ألكسندر دوغين، الذي طالما وصف بالدماغ الجيوسياسي لبوتين، لاحظ منذ البداية أن ثمة من يعمل لتهديم البنية الفلسفية والبنية التاريخية للدولة، من خلال الايغال في “السياسات الاقتصادية العائمة”. الاستهلاك الهيستيري الذي وصفه ليفي اشكول بـ”جنة الحمقى”، لم يدفع فقط نحو تقهقر الانتاج الصناعي، وانما أيضاً نحو تقهقر الانتاج الزراعي، ليصل التخلخل الى “اللاوعي القومي الروسي”. وقيل في وقت متأخر، أن الصدأ اعترى حتى خوذات العسكريين.
غالبريث رأى أنه لو انتظر بايدن 10 سنوات لباعه بوتين سيبيريا، مثلما باع ألكسندر الثاني آلاسكا لأندرو جونسون، ومثلما عرض لينين جزيرة ساخالين على اليابان.
لكن أركان الادارة فكروا بطريقة أخرى. الحاق أوكرانيا بحلف الأطلسي لتصبح قباب الكرملين في متناول الحجارة، وليس فقط في متناول الصواريخ الأميركية.
وإذا كان المستنقع الأفغاني قد أدى الى تخلخل الاتحاد السوفياتي، لا بد للمستنقع الأوكراني أن يؤدي بالاتحاد الروسي، دون أن تدرك العيون الزجاجية في واشنطن، أن أوكرانيا بعلاقتها العضوية وحتى البيولوجية مع روسيا، غير أفغانستان بالتضاريس الطبيعية والقبلية والاثنية، التي يستحيل على أي قوة استيعابها.
هنا دقت ساعة بوتين. لا شك أن أجهزة الاستخبارات الروسية أساءت التقدير، حين اعتبرت أن الدخول الى كييف لا يستغرق سوى أيام، ودون أن تكتشف أي أثر للفخ الأميركي، لا بل تم خداعها حين اتفقت مع جنرالات أوكرانيين على القيام بانقلاب عسكري، فور أن تصل القوات الروسية الى تخوم المدينة.
المفاجآت بقدر ما كانت كارثية كانت ضرورية. الحصار بالعقوبات المروعة أعاد تشغيل المصانع بأقصى قوتها، كما اعاد استثمار الحقول بمنتجاتها الاستراتيجية، دون أن يتحقق الرهان الأميركي بتدمير الاقتصاد الروسي ما يطيح ببوتين، الذي يدرك مدى كراهية العالم للغرب، ليخترق اسواقاً بديلة، ولتطوير تقنيات الماكنة الصناعية.
أولئك الجنود بالخوذات الصدئة، واجهوا ظروفاً مريرة على الأرض الأوكرانية، التي أعادت صقلهم بالدم ليكون جيش الخنادق لا جيش الثكنات، مع التطوير الهائل للتكنولوجيا العسكرية، وتبعاً لمقتضيات الميدان.
عشية الولاية الخامسة “فلاديمير الأكبر” كصورة عن “بطرس الأكبر”، انه القيصر. أميركا العظمى هي من صنعت روسيا العظمى. الكرة الارضية أكثر تعقيداً بكثير من أن تقف على قرن وحيد القرن.