
بقلم د. سعيد عيسى – الحوارنيوز

في النظريات الديمقراطية، يُفترَض أن يؤدّي الإعلام وظيفة الرقيب العام، أو ما يُعرَف بـالسلطة الرابعة. كما يُنظر إليه على أنه الجهة التي تراقب بقية السلطات وتحمي المصلحة العامة من التجاوز والانحراف. لكن هذا الدور، رغم أهميته القصوى، لا يُمارَس دائمًا بمثالية. بل غالبًا ما يُفرَّغ من مضمونه بفعل التضليل، التواطؤ، وارتباط الإعلام بمنظومات النفوذ السياسي والمالي.
الفساد في الإعلام لا يقتصر على الرشوة أو التزييف المباشر، بل يمتد إلى بنية الإنتاج الإخباري نفسها. هنا تبرز أسئلة جوهرية: من يملك المنصّة؟، من يحدّد ما يُقال؟، من يُقصى من التغطية؟، ومن يُمنَح الشرعية الرمزية؟ يعالج هذا المقال الفساد الإعلامي بوصفه بنية اجتماعية متجذّرة لا مجرّد سلوك فردي، ويُقارب الظاهرة من منظور عالمي لا يقتصر على السياق المحلي.
الإعلام كأداة لإنتاج الواقع، لا مجرّد ناقل له
يرى عالم الاجتماع الفرنسي بيير بورديو (Pierre Bourdieu) أنّ الإعلام لا يعكس الواقع فحسب، بل “يصوغه” من خلال آليات الاصطفاء، التأطير، التضخيم، والإقصاء. الصحفيون لا يعملون في فراغ، بل داخل حقلٍ اجتماعيٍّ تحكمه موازين القوى، حيث تتداخل المصالح الاقتصادية مع التوجّهات السياسية.
في السياقات العالمية، لا تخرج كبرى المؤسسات الإعلامية عن هذا المنطق. على سبيل المثال، تخضع قنوات CNN وFox News في الولايات المتحدة لخطاب متحيّز سياسيًا أو تجاريًا. يُعادُ ترتيب الأحداث فيهما وفق مصالح المموّلين أو المعلنين، كما أظهرت تحليلات المفكر الأمريكي نعوم تشومسكي (Noam Chomsky) في كتابه الشهير “صناعة الرضا” (Manufacturing Consent).
أنماط الفساد الإعلامي: من التلاعب إلى التوجيه الناعم
لا يقتصر الفساد في الإعلام على الرشوة المباشرة، بل يتّخذ أشكالًا متعددةً أكثر تعقيدا، مثل توجيه التغطية بما يخدم مصالح المعلنين أو أصحاب المؤسسات الإعلامية، ونشر محتوى مدفوع الأجر (Advertorials) دون الإفصاح عن طبيعته التجارية، ما يساهم في تضليل الجمهور حول مصدر المادة وخلفياتها. ويتجلّى هذا الفساد أيضًا في تحريف الوقائع لخدمة حملات انتخابية أو ترويج سلع وخدمات، وتغييب الأصوات المعارضة أو المهمّشة بشكل منهجي، إلى جانب التحقيقات الاستقصائية التي تُفصَّل وفق أجندات أيديولوجية أو سياسية.
وقد رصدت منظمة “مراسلون بلا حدود” في تقريرها لمؤشر حرية الصحافة لعام 2024 ممارسات تضليل إعلامي في عدد من كبرى المؤسسات الغربية، سواء من خلال نشر أخبار زائفة أو التستّر على فضائح كبرى. وفي عام 2025، أثارت بعض التغطيات الجيوسياسية في شرق أوروبا انتقادات واسعة، حيث سجّلت منظمات رقابية تفاوتًا ملحوظًا في المعالجة الإعلامية بين المنصات الكبرى، نتيجة انحيازها إلى سياسات الدول التي تنتمي إليها، ما انعكس بشكل مباشر على وعي الجمهور بحقيقة النزاع وأبعاده الإنسانية.
التمويل كآلية هيمنة على الخط التحريري
تعتمد العديد من وسائل الإعلام الكبرى على الإعلانات، أو الرعايات، أو التمويل السياسي والحكومي، مما يجعل استقلالية التحرير في موقف هشّ. ويُظهر تقرير معهد رويترز للصحافة (Reuters Institute for Journalism, 2024) أن أكثر من 60% من غُرَف الأخبار حول العالم تقرّ بأن المعلنين قد يتدخلون في اختيار المواضيع أو طريقة عرضها.
حتى في الأنظمة الديمقراطية، تُفرض قيود ناعمة على الصحافة باسم “المصلحة الوطنية” أو “أمن الدولة”. هذا يجعل الإعلام حبيسًا لمنطق النفوذ أكثر من ارتباطه بالحقّ في المعرفة، ويفرّغ مبدأ الشفافية من جوهره. على سبيل المثال، شهد مطلع عام 2025 جدلاً واسعًا حول عقود رعاية ضخمة بين شركات تكنولوجيا عملاقة ووسائل إعلام كبرى، أثار تساؤلات حول مدى تأثير هذه الرعاية على الحياد في تغطية قضايا مثل تنظيم الذكاء الاصطناعي أو ممارسات جمع البيانات.
الصحافة الاستقصائية: فضح الفساد أم إعادة إنتاجه؟
تمثل التحقيقات الاستقصائية في ظاهرها قمة النزاهة الإعلامية. غير أن بعض الدراسات (مثل دراسة Miyase Christensen, 2020) تشير إلى أن هذه التحقيقات غالبًا ما تُوجَّه نحو “ضحايا سهلين”، كصغار الموظفين أو الإدارات المحلية، دون أن تقترب من الشبكات الكبرى للسلطة والفساد.
علاوة على ذلك، تُستَغَل بعض المنصّات الاستقصائية – حتى في أوروبا وأميركا – لتصفية الحسابات السياسية أو للتسويق لمانحين دوليين، بدلًا من أن يكون هدفها تحقيق العدالة ونشر الحقيقة. في النصف الأول من عام 2025، كشفت عدة تقارير عن تورط منصّات استقصائية مموّلة خارجيًا في حملات تشهير موجهة ضد شخصيات سياسية في دول نامية، ما أثار شكوكًا حول استقلاليتها ودوافعها الحقيقية، وأظهر كيف يمكن للشفافية الاستقصائية أن تتحول إلى أداة للتلاعب بالأجندات السياسية الدولية.
الإعلام الرقمي: الشفافية الزائدة كقناع للفوضى
مع التطوّر المتسارع للإعلام الرقمي ومنصات التواصل الاجتماعي، برزت فرص جديدة وغير مسبوقة لكشف الفساد ومراقبة السلطة. لكن في المقابل، أدّى هذا التحوّل إلى تشظّي الحقيقة، وظهور موجات عارمة من التضليل الإعلامي (misinformation) والمعلومات المضللة (disinformation).
تُظهر دراسات مثل تلك الصادرة عن “المسودة الأولى للأخبار First Draft News (2021)” أن الصحافة الرقمية تُستَغَل أحيانًا لنشر حملات مموّلة بأجندات خفية، يصعب تتبّع مصادرها بدقة. هكذا، تتحول “الشفافية” من أداة للمساءلة إلى واجهة زائفة لتضليل الجمهور أو إشغاله بقضايا جانبية، مما يجعل التمييز بين الحقيقة والزيف تحدّيًا كبيرًا للمستخدم العادي. في عام 2025، ومع الانتشار الواسع لتقنيات الذكاء الاصطناعي التوليدي، أصبحت القدرة على إنتاج “أخبار مزيفة” وصور ومقاطع فيديو “عميقة التزييف” (deepfakes) أكثر سهولة وإقناعًا، الأمر الذي فاقم مشكلة “الشفافية الزائفة” وجعل التحقّق من المصادر تحدّيًا غير مسبوق للجمهور والمؤسّسات الإعلامية على حدّ سواء.
الصحافة البديلة وحركات الإعلام المستقل
رغم انتشار الفساد والتحدّيات الهائلة، ظهرت عبر العالم مبادرات صحافية مستقلة تسعى إلى استعادة وظيفة الإعلام الأصلية كرقيب ومدافع عن المصلحة العامة. من الأمثلة البارزة على ذلك ProPublica في أمريكا، وCorrectiv في ألمانيا، وForbidden Stories، وغيرها من الشبكات العابرة للحدود التي تتبنى مشاريع صحافة استقصائية جريئة.
لكن هذه المبادرات تواجه بيئة سياسية واقتصادية خانقة، وتعرّض كوادرها للضغط، أو التضييق، أو التشهير. ويُعدّ مقتل الصحفية دافني كاروانا غاليزيا في مالطا، والصحفي جان كوسياك في سلوفاكيا، أمثلة مأساوية على المخاطر التي تواجه الصحفيين المستقلين في سعيهم لكشف الحقيقة.
في النهاية، الإعلام لا يقف على هامش الصراعات حول الحقيقة، بل هو جزء أصيل منها. عندما يُختَرق الإعلام، يُختَرق وعي الجمهور، وتُفرّغ الديمقراطية من مضمونها الأساسي. مكافحة الفساد الإعلامي لا تعني فقط محاسبة الصحفيين أو المؤسّسات الفاسدة، بل تتطلب إصلاحًا عميقًا في بنية التمكين، التمويل، والتشريع التي تُفرّغ الإعلام من دوره الحقيقي.
فالحق في إعلام نزيه وشفاف ليس ترفًا أو مطلبًا ثانويًا، بل هو شرط أساسي لأيّ مجتمع يسعى للعدالة والشفافية والديمقراطية الحقيقية.



