الحوارنيوز – الأخبار
تحت هذا العنوان كتب محمد عبد الكريم أحمد في الأخبار يقول:
فيما تتسارع جهود روسيا، الحثيثة والأقوى منذ تفكّك الاتحاد السوفياتي قبل أكثر من ثلاثة عقود، للعودة إلى القارة الأفريقية، جاءت المبادرة الأفريقية للوساطة بين موسكو وكييف لتثير تساؤلات هامّة حول دوافعها وجدّيتها وقدرتها على تحقيق اختراق في الأزمة المستحكمة، فضلاً عن مدى ارتباطها برغبة طائفة كبيرة من الدول الأفريقية (من مثل مصر والجزائر ونيجيريا وزيمبابوي) في الانضمام إلى تجمّع «بريكس»، والاستفادة من مقدّراته في دعم التنمية لديها. وقاد وفدَ الوساطة الأفريقي، رئيس جنوب أفريقيا (الدولة الأفريقية الوحيدة في «بريكس»)، سيريل رامافوسا، فيما ضمّ أيضاً رؤساء جزر القمر (الرئيس الحالي للاتحاد الأفريقي) والسنغال وزامبيا (الرئيس الحالي لتجمّع الكوميسا)، ورئيس الوزراء المصري، ومسؤولين من جمهورية الكونغو الديموقراطية وأوغندا. وقدّم رامافوسا خطّة أفريقية من عشرة بنود تتراوح بين احترام ميثاق الأمم المتحدة، وعودة الأطفال الأوكرانيين، وحرية تصدير الأغذية والأسمدة، بينما قال وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، «(إنّنا) لم نرها على الورق»، في إشارة إلى كونها مجرّد اقتراح قابل للتطوير قبل القمّة الروسية – الأفريقية المرتقبة نهاية تموز المقبل.
الوساطة الأفريقية: الدوافع والإمكانات
تضرّرت القارّة الأفريقية، بشكل واضح، من تداعيات الأزمة الروسية – الأوكرانية، التي ستتجاوز فترة العام ونصف عام في آب المقبل، مع انعقاد قمّة «بريكس» في جنوب أفريقيا. وبغضّ النظر عن بعض المبالغات في تقدير تلك الآثار السلبية أو توظيفها في سياقات محلّية مغايرة في محاولة لتبرير فشل الدولة في العديد من الحالات، فإن الحرب أدّت إلى اضطرابات في الأمن الغذائي، ورفعت تكاليف الأسمدة الزراعية التي ازدادت بنسبة 200% تقريباً منذ عام 2020، فيما قدّر «بنك التنمية الأفريقي» (كانون الثاني 2023) وجود 300 مليون أفريقي يواجهون راهناً أزمة جوع وانعدام أمن غذائي. كما شهدت دول القارة تقلّبات حادّة في أسعار صرف العملات الأجنبية، ما دفع التضخّم إلى تجاوز 40%، ولا سيما في أسعار السلع الغذائية التي تستقطع وحدها نحو 42% من إجمالي نفقات المواطن الأفريقي، وتصل إلى 60% في الدول الموبوءة بالصراع وعدم الأمن. واتّضحت أولوية تعزيز الأمن الغذائي وقطاع الزراعة الأفريقي من خلف الوساطة الأفريقية، في تصريحات ليوري أوشاكوف، مستشار الرئيس الروسي فلاديمير بوتين للسياسة الخارجية، والذي أعلن، قبل زيارة الوفد الأفريقي بأيام، أن الوساطة الأفريقية ستُعنى على الأرجح باتفاق تصدير الحبوب الأوكرانية المتداعي، في ضوء حاجة القادة الأفارقة إلى إمدادات حبوب منتظمة إلى القارة، وهو الأمر الذي لم ينجح في تأمينه «اتفاق إسطنبول»، بحسب أوشاكوف.
وتَبرز الدول المشاركة في الوفد (إضافة إلى الجزائر التي توجّه رئيسها عبد العزيز تبون إلى موسكو في 13 الجاري)، في مقدّمة الارتباطات الروسية – الأفريقية المتصاعدة. فمصر – على سبيل المثال – تستورد وحدها نحو 5 بليون طن من الحبوب الروسية سنوياً بحسب تقديرات 2022، فيما يُتوقّع تزايد هذه الأرقام في العام الجاري. كما تتعاظم أهمية العلاقات الروسية – المصرية في قطاعات السياحة والتعاون النووي ومسألة المساعي المصرية للانضمام إلى «بريكس»، ومشروعات لوجيستية مرتقبة في قطاع الموانئ البحرية والنقل، خصوصاً مع إعلان بوتين، خلال زيارته جناح الإمارات في معرض سان بطرسبرغ منتصف حزيران الجاري، عزم بلاده إقامة منطقة صناعية روسية في منطقة قناة السويس الاقتصادية باستثمارات تبلغ 4.6 بليون دولار على مساحة 20 كم مربع. كما تَبرز السنغال، التي تولّت رئاسة الاتحاد الأفريقي في مطلع 2022 بالتزامن مع اندلاع الأزمة الروسية – الأوكرانية، كواحدة من أهمّ الدول الأفريقية التي اتّخذت موقفاً «محايداً» في الأزمة، منذ تصويت الأمم المتحدة على قرار يطلب من موسكو انسحاباً فورياً من الأراضي الأوكرانية (2 آذار 2022). وتهتمّ السنغال بعلاقات وثيقة مع روسيا، في ظلّ تخوّفها من تداعيات الأزمات الأمنية في إقليم الساحل المجاور، ووعود بوتين التي قطعها للرئيس ماكي صال بالسماح لأوكرانيا بتصدير الحبوب والأسمدة إلى بلاده وإلى دول القارة الأفريقية بـ«أمان»، عقب اجتماع بينهما في سوتشي مطلع حزيران 2022، وقبل ما يُعرف باتفاق إسطنبول، وأيضاً بتمتين للعلاقات التجارية بين البلدين في المرحلة المقبلة، ولا سيما أن السنغال واحد من أهمّ شركاء روسيا في أفريقيا جنوب الصحراء؛ إذ بلغ التبادل التجاري بينهما نحو 2.5 بليون دولار في عام 2021، فيما توقّفت التجارة الروسية – الجنوب أفريقية عند حدود 1.3 بليون دولار في العام نفسه.
اتّسمت الاستجابات الروسية والأوكرانية لجهود الوساطة الأفريقية بقدر من الاستخفاف بل وعدم الاكتراث
الاستجابات الروسية والأوكرانية للوساطة: تعميق تهميش أفريقيا؟
اتّسمت الاستجابات الروسية والأوكرانية لجهود الوساطة الأفريقية بقدر من الاستخفاف بل وعدم الاكتراث. إذ اعتبر زيلينسكي، عقب اجتماعه مع القادة الأفارقة، أن محادثات سلام مع روسيا لن تكون ممكنة إلّا مع مغادرة القوات الروسية الأراضي الأوكرانية، وتجاوز ذلك إلى حثّ الوفد الأفريقي على عدم السفر إلى سان بطرسبرغ بحجة قيام موسكو بضربات جوية على كييف في يوم الزيارة نفسه، ما يفرّغ الوساطة من مضمونها عملياً. أمّا في سان بطرسبرغ، فقد أشارت التقارير إلى نهاية اجتماع الوفد الأفريقي مع بوتين (17 حزيران) من «دون تحقق تقدّم ملموس»، علماً أن المبادرة الأفريقية طُرحت كخطوط عاملة غير مترابطة، ووصفها ديمتري بيسكوف، الناطق باسم الكرملين، بأنه «يصعب للغاية تطبيقها»، معتبراً أنه ليست جميع بنودها مرتبطة «بالعناصر الرئيسة لموقفنا (في أوكرانيا)، لكن ذلك لا يعني عدم حاجتنا إلى مواصلة العمل». وكان بوتين استبق عرض القادة الأفارقة بتجديد موقفه القائل إن أوكرانيا والغرب قد بدآ الصراع قبل وقت طويل من إرسال روسيا قواتها إلى الحدود في شباط 2022، وإن الغرب، وليس روسيا، هو المسؤول عن ارتفاع أسعار الغذاء العالمية، وإن صادرات الحبوب الأوكرانية التي سمحت بلاده بمرورها عبر موانئ البحر الأسود اتّجهت إلى الدول الغنية وليس الأفريقية؛ لتبدو الوساطة الأفريقية برمّتها أقرب إلى جهد لتمرير الحبوب والأسمدة إلى دول القارة أكثر من كونها وساطة سياسية شاملة.
روسيا وجنوب أفريقيا وعامل «بريكس»
أمّا جنوب أفريقيا، التي تقود الوساطة الحالية وطُلب منها منذ آذار 2022 القيام بمثل هذه الجهود بحسب رامافوسا، فقد طوّرت في السنوات الأخيرة علاقات متميّزة مع روسيا في أطر مِن مِثل «مجموعة العشرين». وتأتي تلك الجهود بالرغم من تراجع التبادل التجاري بين البلدَين في عام 2022 إلى بليون دولار فقط مقارنة بأكثر من 55 بليوناً بين بريتوريا وبكين، وحوالي 20 بليون دولار بين الأولى وكلّ من واشنطن وبرلين ومومباي. على أن تحمّس جنوب أفريقيا الواضح للوساطة، وسعيها إلى حشد المواقف الأفريقية خلفها على رغم هامشية هذه المواقف وما رصده مراقبون من عدم اختيار اللحظة المناسبة لطرح المبادرة، إنّما يجسّد اهتمام بريتوريا بالأساس بتعميق دورها الإقليمي والدولي، وكذلك تخفيف الضغط الغربي على موسكو وجهود عزلها. كما أن جهودها لا تَخرج من سياق تغيّرات في سياساتها الخارجية متّسقة وتبنّيها مقاربة «الجنوب العالمي»، وما يوصف بإعادة توازن النظام العالمي «بعيداً عن الغرب»، بحسب تصريحات وزيرة الخارجية الجنوب أفريقية، ناليدي باندور، في قمّة وزراء خارجية «بريكس» مطلع حزيران في كيب تاون. ومن هنا، لا يعني الفشل العملي لجهود الوساطة الأفريقية انتفاء نتائجها على مستويات أخرى، ولا سيما أن عدداً من الدول الأفريقية تسعى بكلّ قوة للانضمام إلى مجموعة «بريكس»، أو على الأقلّ دفع ملفاتها خلال قمّة المجموعة في جنوب أفريقيا في آب المقبل.