أربع ثورات متتالية في علاج مرض تصلّب الشرايين التاجية للقلب
ما تزال أمراض القلب والشرايين وتحديداً مرض تصّلب الشرايين التاجية للقلب، تحتل المركز الأوّل المسبّب للوفيات في لبنان وفي معظم الدول المتقدمة، وحتى في بعض الدول النامية ،مع استمرار إنتشار ظاهرة البدانة ومرض السّكري والتدخين في تلك الدول.
ورغم أنّ بعض الدول المتقدّمة نجحت في الحد بشكل كبير من عدد الوفيّات الناتجة عن هذه الأمراض بفضل سياسات متشدّدة جداً لمكافحة التدخين وأيضاً بفضل تقدّم الطرق التشخيصية والعلاجية لهذه الأمراض، فإن هذه الأمراض لا تزال تحتل المركز الأول لإهتمامات وزارات الصحة في معظم الدول المتقدمة والنّامية على حدٍّ سواء، بسبب التغيّرات الكبيرة في نمط الحياة التي أدّت الى زيادات مفرطة في ظاهرة البدانة وفي تنامي إنتشار مرض السّكري بشكل تصاعدي خطير في السنوات الماضية ،والتي ستستمر على هذا النحو الخطير في السنوات المقبلة (إعتماد الأشخاص أكثر وأكثر على وسائل النّقل وتفشّي ظاهرة الخمول وعدم القيام بالتمارين الرياضية او بأي جهد جسدي ملموس ،خاصة في دولنا العربية ،والمكوث لساعات طويلة أمام شاشات التلفاز أو الكومبيوتر، مع التمادي في النقرشة وتناول كافة انواع الأطعمة المُضّرة بصحة القلب، والتناول المتزايد للوجبات السّريعة وإنتشار المطاعم التي تقدّم هذه الوجبات في كل دول العالم).
كذلك فإنّ ظاهرة التدخين لا تزال بإزدياد مستمر في معظم الدّول النّامية والفقيرة التي لم تنجح في وضع قوانين صارمة لمكافحة هذه الظاهرة والتي يلعب المستوى الإجتماعي والإقتصادي المتدني فيها دورا كبيرا في استمرار إنتشار آفات التدخين والكحول والمخدرات وغيرها.
في لبنان لا توجد إحصاءات دقيقة لعدد المصابين بأمراض القلب والشرايين . لكن الأرقام المتوفّرة من مصادر وزارة الصحة والجهات الضامنة الأخرى تشير إلى أنّ حوالي خمسة آلاف شخص تقريباً يتعرضون لذبحات قلبية حادّة،وأنّ حوالي خمسة آلاف شخص آخرين يتوفون بشكل مفاجئ دون أيّة مؤشرات سابقة.كذلك فإنّ حوالي ٣٠ ألفا الى ٣٥ ألف شخص يخضعون سنوياً لعمليات تمييل لشرايين القلب ،وحوالي ٤٥٠٠ شخص يخضعون سنوياً لعمليات قلب مفتوح.كذلك فإنّ حوالي ١٥ ألف شخص يخضعون سنوياً لعمليات توسيع للشرايين بواسطة البالون والراسور(علاج تدخلي للقلب)يتم خلالها إستعمال12000 الى15000 راسور من النوع المطلي بالدواء أو ما يُعرف بالراسور الذكي(Drug Eluting Stent : DES).
أمّا الراسورات العادية غير المطلية بالدواء (Bare Metal Stent : BMS) فقد أصبح إستعمالها نادراً جداً عند أكثرية المرضى اللبنانيين ،وهي تستعمل فقط في بعض الحالات الخاصّة جداً التي لا يقدر فيها المريض أو أهله وأقاربه دفع كلفة الفرق لزرع راسور من النوع المطلي بالدواء،أو تستعمل في بعض الحالات عند أكثرية النازحين السّوريين(لوجود صعوبات مادية في تغطية كلفة العملية) إو عند بعض اللاجئين الفلسطينيين للأسباب ذاتها.
وقد مرّ علاج أمراض تصلب الشرايين التاجية للقلب بمراحل متعدّدة يمكن تلخيصها بعدة مراحل واربع ثورات مُتتالية في هذا المجال:
1- المرحلة الأولى : وهي بدأت منذ بداية خمسينيات القرن الماضي حيث لم يتوقّف أخصائيو أمراض القلب والشرايين من تحقيق الإنجازات المتتالية في مراقبة وعلاج مرضاهم، وكان الإنجاز الأوّل عبر تشييد غرف العناية الفائقة المخصّصة لمراقبة المرضى الذين تعرّضوا لأزمات قلبية حادّة (Coronary Care Unit : CCU) والتي خففت بشكلٍ كبير حالات الوفيّات عند المرضى الذين كانوا يُصابون بالذبحة القلبية أو بإضطرابات خطيرة في ضربات القلب أو بأزمات قلبية أخرى، والذين كانوا غالباً ما يتوفون في منازلهم أو في أسرّتهم داخل المستشفى فجأة بسبب إضطرابات خطيرة بضربات القلب خلال الساعات الأولى من إصابتهم بالذبحة القلبية ( Myocardial Infarction). وقد أمكن من خلال هذه الوحدات مراقبة هؤلاء المرضى في هذه الفترات العصيبة وعلاجهم بواسطة الصدمات الكهربائية لأنّهم كانوا يخضعون لمراقبة مشدّدة لتخطيط القلب(Monitoring) والعلامات الحياتية المهمّة(ضغط شرياني,نبض القلب,سرعة التنفس,علامات قصور القلب ,كمّية البول في اليوم الخ),اضافة الى إجراء الفحوصات البيولوجية والمخبرية التي تستدعيها حالتهم في هذه اللّحظات الحرِجة.
وتكررت بعد ذلك إنجازات الباحثين الذين طوّروا بشكل رائع وسريع أدوية كثيرة وفعّالة جداً منهاّ : مُضادات التخثّر، ومن اهمّها الأسبرين الذي لا يزال الدواء الاوّل الذي يجب على كل مريض قلب تقريبا أن يتناوله حتى تاريخ اليوم ما عدا بعض الحالات الإستثنائية حيث يكون هناك حساسية شديدة على هذا الدواء او مشاكل مهمّة في المعدة. كذلك وظهرت سريعاً أدوية مُسيّلة قوية جدا مضادة للتجلّط وتُذيب الجلطة المتكوّنة داخل الشريان(Fibrinolytics or Thrombolytics) والتي لعبت في ما بعد دوراً مهماً في تخفيف حِدّة إصابة عضلة القلب عن طريق فتح الًشرايين المسدودة خلال الساعات الأولى من الإصابة وإعادة الدورة الدمويةً الكاملة إلى جميع أنحاء هذه العضلة، مما قلل أيضاً بشكلٍ كبير نسبة الوفيات عند المصابين بهذه الذبحات القلبية.
وقد شكّل ذلك ثورة كبيرة في علاج الذبحات القلبية الحادّة وسمح لسنوات متعدّدة بإنقاذ حياة عدد هائل من المرضى الذين كانوا يتوفّون قبل ذلك بسبب قصور عضلة القلب الناتج عن استمرار الانسداد الكامل في الشريان المسؤول عن هذه الذبحة.
وقد أجريت على هذه الأدوية وغيرها من الادوية الجديدة تجارب عديدة شملت آلاف المرضى سمحت بتقدم هائل في مختلف العلاجات الدوائية والتي تتوفر اليوم لمرضى القلب في لبنان بمعظمها، لكنّ استعمالات هذه الأدوية المُسيّلة القوية تدنّت بشكلٍ كبير مع تطوّر الطب التدخُلي للقلب ولجوء الأطباء في لبنان ومعظم دول العالم المُتقدم الى إستعمال التقنيّات التّدخّليّة في علاج الذبحات القلبيّة (Primary Angioplasty) عند أغلبية المرضى ،خاصة اذا وصل المريض بشكلٍ مُبكر أي قبل مرور 6 الى 12 ساعة من بدء ظهور علامات الذبحة القلبية، بحيث أصبح العلاج التّدخّلي هو العلاج الأوّل الذي يجب أن نطرحه على المريض والأول المُستعمل حاليا في لبنان وعالميا في علاج الذبحة القلبية الحادّة. ولا نلجأ عادة الى الأدوية المُسيّلة المُضادة للتجلّط الّا في بعض الحالات الإستثنائية أي عند المرضى الذين وصلوا الى مستشفيات بعيدة أو ريفيّة غير مُجهّزة بغرف التّمييل أو عند بعض المرضى غير القادرين على تغطية تكلفة عملية توسيع الشرايين بالبالون والراسور(بعض المرضى اللبنانيين الفقراء أو بعض النّازحين السّوريين وبعض اللاجئين الفلسطنيين).
2-المرحلة الثانية: بدأت عمليات القسطرة أو تمييل شرايين القلب في أواخر خمسينيات القرن الماضي ايضا ، وكانت في البداية تتم عبر شق صغير(Cut-down) في منطقة المرفق من أجل الوصول الى الشريان الموجود في هذه المنطقة (Brachial artery). لكن تطوّر التقنية وإجرائها كما تتم حالياً من منطقة الفخذ لم يتم إلا في أواسط الستينيات من القرن الماضي بعد أن طوّر أحد الأطباء السويديين(Steven Seldinger )هذه التقنية، وتم إستعمالها بعد ذلك على نطاق واسع من قبل أطباء مشهورين في ذلك الوقت ومن أهمهم (Kurt Amplatz ) و(Melvin Judking). ولاحقاً طوّر أطباء آخرون وفي مقدمتهم الطبيب الكندي ( Ferdinand Kiemenij) أساليب أخرى لإجراء عمليات التمييل من خلال شريان المعصم أو ما يسمّى بالشريان الكعبري(Radial artery) والتي أصبحت تستعمل من قبل أطباء كثيرين منذ سنة 1992 وهي تسمح بأن يقوم المريض مباشرة بعد التمييل وان يُعاود نشاطه في ذات اليوم بعد العملية دون الحاجة الى التمدد لفترة 6 الى 8 ساعات بعد العملية.
و قد أصبح المرور بواسطة هذا الشريان ،أي من منطقة اليد، الطريقة الأكثر إستعمالاّ لإجراء عمليات التمييل في معظم المراكز العالمية وفي لبنان ،لأنّه يسمح للمريض بالخروج من المستشفى بعد ثلاث او أربع ساعات من إجراء عملية التمييل ،بعد أن كان عليه لزوما أن يبقى مستلقيا في المستشفى لمدة 6 الى 8 ساعات من عملية التمييل عند المرور بواسطة شريان الفخذ، وذلك لمنع حالات النزيف التي كانت رائجة جدا وتعتبر من أخطر الأعراض الجانبية لعمليات التمييل التي كانت تستعمل شريان الفخذ والتي تمّ القضاء عليها بالكامل مع إستعمال شريان المعصم.
وكان التطور الأهم في تاريخ علاج مرض تصلب الشرايين التاجية للقلب مع تطوير تقنيات التوسيع بالبالون سنة 1977. لكن أطباء القلب لاحظوا أن المعضلة الأساسية التي كانت تواجههم في تلك الفترة (التي امتدت حتى سنة1986), عند اجرائهم لعمليات توسيع الشرايين التاجية للقلب ،كانت في معاودة إنسداد الشريان في المكان الذي تمّت فيه عملية التوسيع وفي فترة تتراوح بين ثلاثة إلى ستة أشهر بعد تاريخ العملية ، وهو ما يُعرّف عنه طبياً بالـ ( Restenosis ) . لذلك قاموا بإستعمال اساليب متعددة لمحاربة هذه الظاهرة. ولذلك اعتبر إكتشاف الروسور (stent )سنة 1986 تطوّرا آخر هائلا في مجال علاج أمراض القلب والشرايين، واعتبر إكتشاف وتطوير الروسورات فيما بعد بمثابة نجاح كبير في المعركة الدائرة بين أطباء القلب وعدوهم اللدود المُتمثل في مُعاودة إنسداد الشرايين التاجية للقلب.