«أبل» في الكونغو: «المعادن الدموية» مهما كان الثمن!
الحوارنيوز – صحافة
تحت هذا العنوان كتب علي عواد في صحيفة الأخبار يقول:
اتّهم عملاق التكنولوجيا «آبل» باستخدام معادن مستخرجة بشكل غير قانوني ومغسولة عبر سلاسل توريد دولية. تشمل التهم جرائم حرب، وتبييض «معادن ملوثة»، والتعامل مع بضائع مسروقة، وممارسات تجارية خادعة تهدف إلى تضليل المستهلكين
تمتلك جمهورية الكونغو الديموقراطية ثروة هائلة من المعادن المهمة بما في ذلك القصدير، والتنتالوم، والتنغستن، والذهب، المعروفة بمصطلح 3T+G. تشكل هذه المعادن عنصراً أساسياً في صناعة الإلكترونيات مثل الهواتف الذكية والحواسيب. إلا أن استخراجها يجري في الغالب ضمن مناطق نفوذ وسيطرة جماعات مسلحة متورطة في انتهاكات ممنهجة لحقوق الإنسان من القتل والاغتصاب والنهب، ناهيك بظروف العمل الصعبة جداً وعمالة الأطفال.
في السنوات الأخيرة، تصاعدت الاتهامات الموجهة إلى شركة «أبل» بشأن استخدامها لما يُعرف بـ «المعادن الدموية» في سلسلة توريد منتجاتها. مصطلح يُقصد به الإشارة إلى أن تلك المعادن أتت عبر مناطق نفوذ الجماعات المسلحة في الكونغو والمناطق المجاورة، حيث تُستخدم عائدات هذه المعادن لتمويل الصراعات المسلحة التي أودت بحياة ملايين المدنيين في شرق الكونغو منذ التسعينيات وفقاً لتقارير الأمم المتحدة ومنظمات حقوق الإنسان. ورغم الجهود المبذولة لتنظيم تجارة هذه المعادن، لا تزال المشكلة قائمة بسبب جشع الشركات الكبرى وعدم كفاية أنظمة المراقبة.
وقد رفعت جمهورية الكونغو أخيراً دعوى قضائية في فرنسا وبلجيكا تتهم «أبل» بالتورط في التغطية على جرائم حرب و«غسل معادن»، والإفادة من بضائع مسروقة، وممارسات تجارية مضللة. وتفيد الشكوى المرفوعة في فرنسا بأنّ «أبل» وفروعها تعرف جيداً أن سلاسل توريدها تعتمد على انتهاكات ممنهجة. و«غسل المعادن» مصطلح يشير إلى العملية التي تُستخدم فيها أساليب لإضفاء الشرعية على معادن مستخرجة من مناطق نزاع أو تلك الناتجة عن ممارسات استغلالية. الهدف من هذه العملية هو إخفاء المصدر الحقيقي للمعادن فتبدو كأنها نُقلت أو استُخرجت بطرق قانونية وأخلاقية، ما يسمح بإدخالها في الأسواق العالمية من دون إثارة الشبهات. عادةً ما يبدأ غسل المعادن عبر تزوير أو التلاعب بالوثائق المتعلقة بسلسلة التوريد، مثل الشهادات التي تؤكد مصدر المعدن. وفي بعض الحالات، تخلط المعادن غير الشرعية بمعادن شرعية من مناطق أخرى، فيصعب تمييزها عن بعضها.
في مواجهة هذه الاتهامات، نفت شركة «أبل» أي تورط مباشر، مؤكدة أنّ غالبية المعادن المستخدمة في منتجاتها معاد تدويرها. كما شددت على التزامها بدعم المنظمات التي تقدم المساعدة للمجتمعات المتضررة في المناطق التي تنتج هذه المعادن. مع ذلك، يرى منتقدو الشركة أن هذه التصريحات تفتقر إلى المصداقية، معتبرين أنها تسعى إلى التغطية على المشكلات الحقيقية المرتبطة بسلاسل التوريد.
أحد أبرز الانتقادات الموجهة إلى «أبل» يتعلق باستخدامها لنظام المراقبة iTSCi، وهو برنامج مخصّص لمراقبة وتتبع المعادن أنشئ عام 2009 لمراقبة تصدير معادن 3T. لكنه تعرض لانتقادات شديدة من قبل منظمات حقوقية وتقارير مستقلة، أبرزها تقرير صدر في عام 2022، أكد أنّ iTSCi فشل في تحقيق الشفافية المطلوبة، بل وُصف بأنه يسهم في «تبييض» المعادن التي قد تكون مرتبطة بنزاعات أو ممارسات استغلالية. ويرى النقاد أن استمرار «أبل» في الاعتماد على هذا النظام ينم عن سوء نية ومحاولة للتملّص من المسؤولية عبر استخدام نظام مراقبة لا يفي بالغرض.
وتقول حكومة الكونغو في اتهامها إن شركة «أبل» ــ رغم ادعاءاتها العلنية بالشفافية ـــ تستفيد من نظام يسهم في استمرار النزاعات. ويشير المحامون الممثلون عن الكونغو إلى تقارير صادرة عن الأمم المتحدة ومنظمات حقوقية تثبت أن «المعادن الدموية» تتسلل إلى الأسواق الدولية عبر شبكات معقدة تشمل دولاً مثل رواندا وأوغندا. ومع انتشار الخبر عن تورّط شركة «أبل» في سلسلة توريد مشبوهة للمعادن، تلقّفه مستخدمو منصات التواصل الاجتماعي بغضب واستياء شديدين. وتصاعدت حدة النقاشات بسرعة، إذ أطلق النشطاء هاشتاغات تدعو إلى مقاطعة منتجات «أبل»، معتبرين أن الشركة تخون ثقة عملائها وتستغل معاناة المجتمعات في مناطق النزاع لتحقيق الأرباح. وانتشرت المنشورات والمقاطع التي توضح تفاصيل القضية وتوثق الظروف الصعبة التي يعانيها عمّال المناجم، خصوصاً الأطفال، في الكونغو، ما أثار موجة تعاطف واسعة. وانضم عدد من المؤثرين إلى الحملة، مطالبين الشركة باتخاذ خطوات جدية نحو إصلاح سلاسل التوريد والتوقف عن استخدام أنظمة رقابة مشكوك في فعاليتها مثل برنامج iTSCi.
تحاول شركة «أبل» تقديم هذه القضية على أنها مجرد خلاف عادي بين حكومة وشركة، سعياً إلى تبسيط الجدل المحيط بعملياتها في الكونغو وغيرها من المناطق الغنية بالمعادن. لكن هذه الرواية تتجاهل الأبعاد الأعمق للمشكلة، التي تمتد إلى بنية النظام الاقتصادي الرأسمالي العالمي. هذا النظام، بطبيعته، يمنح الشركات المتعددة الجنسيات قوةً استثنائية تسمح لها بالالتفاف على القوانين المحلية والدولية، مستغلة الفجوات التنظيمية لتحقيق أقصى حد من الأرباح على حساب المجتمعات المحلية والبيئة.
ولا تقتصر المسؤولية هنا فقط على «أبل» وشركات التكنولوجيا الأخرى التي تعتمد على المعادن الثمينة في أجهزتها، بل تمتد لتشمل الحكومات والمؤسسات الدولية التي تسهل هذا النوع من الاستغلال. الدول التي استعمرت الكونغو في الماضي، لا سيما بلجيكا، تتحمّل مسؤولية تاريخية وأخلاقية عن الوضع الحالي. فقد زرعت هذه الدول خلال مدة الاستعمار الأسس لنظام اقتصادي يعتمد على نهب الموارد الطبيعية واستغلال القوى العاملة المحلية لمصلحة الأسواق الأوروبية، تاركة إرثاً من الفقر وعدم الاستقرار السياسي.
اليوم، تتجلى تركة الاستعمار في ضعف البنية التحتية للحوكمة والفساد المستشري في عدد من الدول الأفريقية، ما يجعلها عرضةً للاستغلال المستمرّ من قبل الشركات العالمية. في الوقت نفسه، تستفيد الدول الصناعية من المعادن المستخرجة بكلفة بخسة تحت ظروف غير إنسانية، من دون أن تتحمّل أي تكلفة اجتماعية أو بيئية تُذكر. ويترك آلاف عمال المناجم من أطفال وشباب تحت رحمة تربة هشة فوق رؤوسهم من أجل بضعة دولارات، في حين أنّ شركة مثل «أبل»، تأتي النسبة الأعلى من أرباحها من صناعة الهواتف التي تعتمد على تلك المعادن.