أدب وشعر

يوم غريب:قصة قصيرة في زمن الكورونا

 

    بقلم حيدر شومان

طويلاً كان ليلي وأنا أحلُّق في أرجاء متاهات نفسي، أقلُّب الماضي وأحداثه المتشابكة، وألعن الحاضر وصوره الكالحة، وأسعى لأنزعَ ستار الحزن الذي أظلَّ بصيرتي، علني أكشف طبيعته وكنهه فلا أستطيع. هل هو شوقي لولدي الذي سرقته الغربة خمس سنوات وقد ذاب كبدي وجداً عليه، وعيل صبري لطول الانتظار، أم هو عملي مديراً لإحدى أكبر شركات العاصمة، ومع ذلك فقد مللتُ معزوفته الشاحبة الأزلية، وضقتُ ذرعاً من كل ما ومنْ يحيط بي؟ 
وأفقت مرتعباً على نور الغرفة وقد اقتحم الظلامَ دون إنذار، تبعها جلبة مصدرها زوجتي وكأنها تعوّض عن ساعتي النوم اللتين استطعتُ فيهما أن أسكنَ سريرتي. وفتحتُ عيني بتثاقل، والشمس تصفعني بأشعة نارية تكاد تطفئ نور عينيّ، فترحَّمتُ على فصل الشتاء وبرده وأناشيد مطره، ولعنتُ الصيف وقيظه وشمسه الحاقدة. وسألتُ زوجتي كم الساعة، فلم ألقَ رداً، يبدو أنها أنجزت مهمتها بإيقاظي وفرَّت من المواجهة.
ولا يستيقظ البيتُ إلا باستيقاظ ابنتي سمر، وهي تذرع أرجاء الغرف ذهاباً وإياباً، وغناؤها يعلو الآفاق، وليس لي إلا أن أكظمَ الغيظ في نفسي، وأطفئَ ثورة الغضب التي تعتلجُ بين أضلاعي، وألوذَ إلى قهوتي التي لا سبيل لبدء يوم جديد دون التمتع بسحرها الناعم الذي يسري في دماغي وشراييني وحواسي الخائرة عند كل صباح.
وخرجت إلى الشرفة فوجدت زوجتي بوجهها المتجعد وجبينها المقطب، عابسة كالحة، كاسفة البال، كئيبة، وقد بدا أنها كبرتْ عشر سنوات، ترتسم في عينيها نظرات الشك والحذر، كأنها تتجنب النظر إلي أو التحدث معي. وتمتمتُ أمامها بكلمات قليلة فلم ألفت انتباهها. ولم تكن حال ابنتي أفضل، فبدا الوجوم مرتسماً في ملامحها، والخوف يكمن في نظراتها، وهي تشيح بوجهها كلما شعرتْ بنيتي في مكالمتها.
ولم أكن بوضع يسمح بإثارة نقاش أو فتح تحقيق لمعرفة ما تخفيان عني من مصيبة جديدة حملتها الأيام وغوائلُها وخطوبها، أو ربما ما كنت أشعر به حينها يعفيني من السؤال، ويغنيني عن الإجابة. فلم أجد إلا الهروب وسيلة، فانسللت من المنزل راجياً أن يزول عند عودتي كل كرب، فإن قلبي لم يعد يقوى على المقاومة أو الصبر.
ووقفت بانتظار المصعد الذي يبدو كأنه لن يصل، فلمحت جاري أسعد من خلف بابه ينظر إلي محدقاً كأنه يلعن اللحظة التي ستجمعه بي في هذا الصباح. وكان لا بد أن يخرج إلى قدره المحتوم ويجتمع بي بانتظار المصعد، وحيَّاني بتحية الصباح التي بدت وكأنه يتقيأها. ونظرت إليه باستغراب يفوق الغضب… لماذا يبدو خائفاً أو حانقاً أو تائهاً؟ لماذا لا يكلمني كعادته في كل صباح أو مساء مبالغاً في مدحي والسعي لإرضائي؟
  وطال وقوفي بانتظار سيارة أجرة تحملني إلى الشركة، فلم يحلُ لسائقي أن يتصنَّع المرض إلا في هذا اليوم، ولم يتكبد عناء إبلاغي بنية تغيّبه إلا في اللحظات الأخيرة. وزاد من حنقي نظرات سائقي التاكسيات نحوي كأنها تسبني أو تبصق في وجهي، وسياراتهم تمرُّ من أمامي لتحمل ركاباً غيري، دون أن يزعج أيُّ منهم نفسه بسؤالي إلى أين وجهتي. ونظرتُ إلى هندامي، وتحسست شعري ووجهي، لأرى هل في مظهري ما يبعد الناس عني.

الشارع مزدحم بأعداد هائلة من السيارات، وأبواقها ترتِّل أناشيد جنونية لا تتوقف، وذلك لا يحل المشكلة ولا يخفف من الازدحام، لكن المزاج في لبنان رهين الأيام السائرة على غير هدى، وجزئيات الحياة التي لا تعرف لوناً واضحاً، ولا صورة ثابتة، ولا هيئة مستقرة.

وشعرت بالحاجة إلى سيجارة أطفئ بدخانها نار قلبي الملتهب… لقد أقلعت عن التدخين منذ أكثر من سنة، وقررت ألا أتراجع عن قراري مهما اشتدت بي النوائب وعصفت بأحوالي الملمّات، وأشهدتُ على ذلك كلَّ حبيب وقريب، لكنني الآن في حال يصعب معه الالتزام بعهد أو الوفاء بوعد. لا بأس في سيجارتين أو ثلاث بعيداً عن أعين من يتربصون بي، وسأقلع عن التدخين مجدداً.
واتجهت إلى دكان أبي فايز، ذلك الرجل الطيب، ورغبتي في التدخين تشتد كلما اقتربت منه، فلمحتُ بسمته الهادئة التي اعتادها وجهه، وسلمتُ عليه بشوق من يسأله الخلاص، وهبّ كعادته منتفضاً للترحيب بي، ثم بدأت أشعر أن عدوى الغموض والحذر تصيبه أيضاً.
" لا يوجد لدي سجائر".
وأشرت إلى الطاولة المواجهة التي تملأها عشرات العلب من السجائر، فقال والكذب باد على محياه: " إنها ليست للبيع، عذراً سيدي، يجب أن أقفل الدكان فهناك سفر طويل بانتظاري".  
ويشعر المرء أحياناً أن منصبه الرفيع عائق أمام تحقيقه الكثير من الأمور، وتلك حالي عندما شعرت بالرغبة في أن أصفعه أو ألكمه أو أكيل له الشتائم. واكتفيت بنظرة قاسية ألقيت بها فوق وجهه، وعدت أدراجي إلى الشارع المزدحم الصاخب. وقررت الذهاب إلى الشركة سيراً، فلا بأس من ممارسة الرياضة القسرية في هذا الحر اللافح.

دخلت غرفة مكتبي دون أن أتعطَّف على أحد من الموظفين بنظرة أو تحية أو شتيمة، لكني كنت أشعر أن أعينهم تنزع عني ثيابي، وتقتحم حقيبتي، وتخترق مكامن نفسي. وجاءت سكرتيرتي فدوى بقامتها البدينة، ووجهها المكتنز، ونظراتها الثاقبة، ووضعتْ فنجان القهوة أمامي دون أن تنبس بكلمة، ولأول مرة منذ أن جمعني القدر بها قبل ثلاث سنوات تنسى إحضار كوب الماء مع القهوة، وإن كنت لا أشربه عادة.
ومضت ساعتان لم يُطرق فيهما بابي، لا موظف يلتمس عذراً في إجازة، ولا شكوى أو مراجعة أو طلب استرحام من أحد من الناس الذين لا يتركون لي عادة فسحة من الوقت أخلد فيها إلى الوحدة والاسترخاء… كذلك لم تتصل بي زوجتي لتربك صباحي، وتعكر مزاجي، بأن تسألني ماذا أريد لطعام الغداء والعشاء، أو تشكو إلي الخادم ووقاحتها، أو تزف إلي خبر حمل أختها، أو نجاح ابن أخيها في المدرسة، أو نية أمها تناول الغداء معنا ويجب ألاَّ أتأخر عن الموعد. حتى السكرتيرة اختفت في حضن المجهول الذي رسمتْ أحداثُه مسيري في هذا اليوم الغريب. فهل هي التي حجبت الناس والموظفين عني؟   
ووقفت أمام المرآة التي عُلِّقت فوق أحد الجدران، وهالني مشهد وجهي الكالح، وعيني الغائرتين، وملامحي الخائرة، فبدوتُ وكأني أنادي ملك الموت متوسلاً أن يأتيني لينزع الروح من جسدي الذي لم يعد يطيق تحملها.  
وقطع صراخ الهاتف أفكاري البعيدة، وأيقظني من شرود غبت فيه طويلاً. لأول مرة أشعر بثقل الصمت من حولي، وقد غرقت في غمراته السوداء، وكأن للصمت ضجيجاً عدمياً يصم الآذان ويخنق الروح بقبضاته الناعمة.    
كان الصوت آتياً من بعيد يحمل الأملَ الذي ضاعت بيارقُه خلف حُجُب الدواهي، وكلمات قليلة لا شك ستكتب للأيام المقبلة أناشيدَ السعادة التي اشتقت سماعَها منذ سنين تكاد تكون دهوراً…
"مفاجأة يا أبي… سأصل غداً إلى لبنان، آن الأوان لترى حفيدك".
من يصدق أن العمر كله يخرُّ ساجداً عند محراب كلمات قليلة؟ من يصدق أن ظمأ دهر من الزمان ترويه لحظات قصيرة؟ من يصدق أن ثورة الغضب التي كادت تحرق كياني ومن حولي تُسكِنها همساتٌ خفيفة؟ من يصدق أن الشيخ الذي كاد يرمي سلاحه ويعلن استسلامه بعد أن غدر العمرُ به وأحاطه الظلام بجنده، تدب الحياة في بدنه وروحه فجأة، فيهب على قدميه، ويحضن سيفه، ويثور على العوائق من جديد؟
واتصلتُ بزوجتي بارتباك، واللهفة تسبقني، والسعادة تسرقني، وقلبي يغني مع رنين الهاتف في الجهة الأخرى. وما إن أخبرتها حتى سمعتُ لها شهقةً كادت أن تسقط السماعة من يدي، ومرَّت هنيهة من الوقت ظننت معها أن مكروهاً قد أصابها إلى أن سمعت لها عاصفة من البكاء اجتاحتها تعلن عن سعادتها وبقائها على قيد الحياة، لتبدأ بعدها عاصفة أخرى من الأسئلة المرتبكة التي تداخلت مفرداتُها فيما بينها فضاعت فيها المباني والمعاني، فلم أردَّ على أي منها، وربما لم تكن تنتظر الإجابة وقد اختصرتُ لها بجملة موجزة ما تضمنته ثواني اتصال ولدها. ولم يكد يهدأ روعها ويسكن ثائرها حتى قالت وهي في عالم آخر: "ماذا تريد طعاماً للغداء؟ والعشاء؟ هل تريد أن أصنع شيئاً من الحلوى؟ سوف أدعو أمي إلى الغداء فلا تتأخر…".
وقمت إلى سكرتيرتي فدوى بحماسة زائدة أبشرها بالخبر السعيد وأنا أعلم أن ذلك لن يعنيها في شيء، فهي لا تعرف حتى أن لي ولداً سرقته الغربة منذ سنين، لكن الفرحة أحياناً تتسع إلى حد لا يحتمله قلبٌ واحد، فيضطر صاحبها إلى مشاركة قلوب الآخرين.
وفاجأتني ردة فعلها الساخنة، وبادلتني الابتسامة بأكبر منها، وقالت وكأن حملاً ثقيلاً أُزيل أخيراً عن كاهلها: "السيد حسام والسيد هاني وبعض الموظفين يودون مقابلتك و..".
وبلغت الساعة الثالثة، وقررت العودة سيراً إلى البيت كما فعلت في الصباح وقد راق لي الأمر، خصوصاً وأن تحركاتي اليومية لا تعدو سوى خطوات معدودة في أماكن مختلفة ثابتة، وقد أصبحتُ أشبهَ بمُقعد لا يَقوى على الحركة دون كرسيه، فمن كرسي المكتب في الشركة، إلى كرسي غرفة المطالعة التي أنتبذ فيه السكينة والوحدة، إلى كرسي غرفة الجلوس والتسمر ساعات أمام التلفاز، ولا ينتهي يومي مع رحلة الكراسي إلا عندما أخلد إلى النوم.
ما أجمل أشعة الشمس في هذا الوقت، وما أروع الدفء الذي يسري في روحي وهو يلامس جسدي، ويحثُّني على متابعة السير نحو هدفي دون الالتفات إلى سيارات التاكسي التي تتسابق نحوي لكي تتشرف بحملي إلى حيث أريد.
وما أن وصلت إلى مبنى البيت حتى رأيت أبا فايز، الرجل الطيب، واقفاً أمام دكانه، والبسمة الدافئة قد عادت إلى وجهه، فأسرع إلي مصافحاً، مداعباً، معتذراً، فسألته معاتباً وأنا أعرف جواب سؤالي: "أوَعدت من سفرك؟". فكبرت بسمته خجلاً وقال: "أنا آسف سيدي، التدخين مضر بصحتك".
ووصلت إلى البيت والحماسة تدفعني، والسعادة ترفعني، وفُتح الباب على زوجتي بوجه طليق، وجبين مشرق، وثغر باسم، والبشر يلمع في عينيها، وقد بدا أنها صغرت عشر سنوات، فقلت والقلب ينبض معانقاً الكلمات:
"تبدين رائعة الجمال يا عزيزتي"…  

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى