سياسةمحليات لبنانية

هل ينجح لبنان في عبور مستنقع صندوق النقد الدولي؟(2)

 


لم يتوقف الاشتباك السياسي في لبنان، والانقسام بين القوى الداخلية يتعمق يوماً بعد يوم، وغالباً ما تضيع بوصلة التحالفات في خضم الأحداث المتداخلة، والتي تفرضها التدخلات الخارجية في معظم تفاصيل الحياة السياسية، ما يعرّض السيادة الوطنية للاختراق اليومي، بالإضافة إلى التهديد الدائم للعدو الإسرائيلي لتقويض الاستقرار الداخلي، ومحاولة تدمير اقتصاده ونهب موارده وثرواته المائية والنفطية والغازية، كل ذلك يؤدي إلى استحالة نهوض البلد وخروجه من أزماته الخطيرة.
لقد شهد لبنان حراكاً شعبياً في 17 تشرين الأول 2019، عبّر عن نقمة عارمة ضد الطبقة السياسية، بسبب تراجع الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية، وارتفاع الأسعار ومعها معدلات البطالة والفقر، وتدمير الثقة بين المودعين والمصارف، بسبب شح السيولة، وعدم مقدرة المودعين من سحب ودائعهم، أو الحصول على الدولار من حساباتهم بالعملة الأجنبية، وتطرّف إدارات المصارف في تطبيق إجراءات قاسية لضبط رأس المال بدون وجه قانوني، والتمادي في تضييق حدود السحوبات لأدنى مستوياتها، وخاصة بالدولار، وممارسة سياسة الاقتطاع من الودائع بطريقة غير مباشرة، بعد فرض سحبها بالليرة اللبنانية، وفق معدلات متفاوتة لأسعار الصرف، أقل بكثير من سعر الصرافين والسوق السوداء، ما يشكل مخالفة قانونية ودستورية وانتهاكاً للاقتصاد الحر، الذي يتم تغييبه عملياً، ويستحضره البعض ويتغنى به عندما يتعلق الأمر بمصالحه، ووصل الأمر بالمصارف بممارسة استنسابية فاضحة في تطبيق السحوبات، والتمييز بين المودعين، وتحرير مبالغ كبيرة لبعضهم وتحويلها للخارج، دون أي اعتبار للعواقب الخطيرة على سلامة النقد، أو المحافظة على قيمة العملة الوطنية، ما أوصل البلاد لأزمة مالية خانقة يصعب الخروج منها.
بعد الاحتجاجات الشعبية، وتشكيل حكومة جديدة، هدأت التحركات في المناطق، بانتظار الخطوات العملية التي ستقوم بها تلك الحكومة، وفي ظل تلك الأجواء، ظهر فيروس كورونا المستجد والمخيف، فأربك الحكومة، واحتاجت لبعض الوقت لاستعادة المبادرة، وخوض المعركة ضد هذا الوباء، فاتخذت إجراءات فعالة عبر وزارة الصحة والوزارات المعنية والطواقم الطبية، وخاصة في مستشفى بيروت الحكومي، مدعومة بحملات إعلامية ضخمة، مكنتها من الحد من انتشار الفيروس واحتوائه، وقد تعطلت حركة التنقل في البلاد، وأقفلت معها معظم المؤسسات العامة والخاصة، بعد إعلان التعبئة العامة، ما وضع مواجهة هذا الفيروس أولوية عند الجميع.
لكن ما إن اتخذت الحكومة قراراً بتخفيف إجراءات التعبئة، حتى امتلأت الشوارع بالمحتجين، في ظل ارتفاع جنوني غير مسبوق للأسعار ولسعر صرف الدولار، ليعيد خلط الأوراق من جديد، ويعطي إشارات واضحة بأن الحكومة ستواجه زخماً كبيراً للشارع، بعد إخفاقها في تحقيق نتائج ملموسة تهم المواطن، بل اقتصرت على الخطابات الجريئة، والتي ظلت بدون مفاعيل عملية لتغيير الأوضاع، وحاول رئيس الحكومة الإنقلاب على هذا الواقع، بعد خروجه علناً ليتهم حاكم مصرف لبنان مباشرة، بالتقصير أو العجز أو التحريض لانهيار العملة الوطنية، وفي نبرة عالية وصلت لحد التوعد بفتح السجون للمرتكبين، ليتضح لاحقاً أن هناك عوائق طائفية وسياسية تمنع إقالة الحاكم، ما أضعف موقف حسان دياب، وافشل محاولته في إحداث اختراق جوهري لتعديل السياسات النقدية والمالية، أو أقله استمالة الرأي العام لتحصين موقعه، وظل صراخه واتهامه معلقاً في فضاء التاريخ، وليس من المعروف مدى استمراره في مواجهة الحاكم، بعد تكليف مجلس الوزراء لشركة مختصة للتدقيق بحسابات المصرف المركزي، ولعله كان من الأجدى انتظار نتائج التدقيق، أو تهيئة الظروف مع القوى السياسية للإطاحة برياض سلامة، بدلاً من الاصطدام العلني بالحاكم، وعدم المقدرة على إقالته، وصعوبة الاتفاق على حاكم جديد، في ظل الاختلافات السياسية العميقة بين الحلفاء أنفسهم، الداعمين للحكومة، وترقب كبير للمعارضين لرصد أي خطوة متهورة، قد تسبب الإطاحة بالنظام النقدي برمته، بالرغم من أهمية خطوة إزاحة الحاكم، لتغيير النهج المالي والنقدي من جذوره.
فأمام ما حدث في تشرين الأول 2019، والاحتجاجات التي تجددت بعد تخفيف إجراءات التعبئة العامة بسبب كورونا، ظهر بشكل واضح عدم تغيير ذهنية السلطة في إدارة البلاد، وأيضاً عجز الحكومة الجديدة ووزراء التكنوقراط، من خروج معظمهم من عباءة الأحزاب والقوى السياسية، خاصة بعد الأزمة التي أطاحت بالتعيينات المالية الضرورية، والتي شكلت فضيحة في الشكل والمضمون، ما يؤكد فشلها في إحداث تغيير جوهري عبر خطتها الإنقاذية، بالإضافة إلى عرقلة المعارضين لتطبيق الخطة، وتحميل الحكومة فشل مهمتها في الخروج من الأزمة، وكل ذلك يُدخل لبنان في نفق مظلم وطويل، تمهيداً للانهيار الشامل، والخوف من محاولة إعادة رسم موازين جديدة للقوى في الداخل، بعد خوض صراع خطير لتغليب فئة على أخرى.
لقد وجدت الحكومة نفسها محاطة بكم هائل من الصعوبات، وكأنها تسبح وسط تيارات متقاذفة، تعيق التقدم للتغيير، كما أنها توجهت للأمام، قاصدة صندوق النقد الدولي لمساعدتها، بعد تسليم جميع القوى بالاستعانة بهذا الصندوق مكرهين، كي لا توجه لبعضها الاتهامات بعرقلة الخروج من المأزق، بالرغم من التشرذم الداخلي، الذي سيكون عاملاً سلبياً في تطبيق الخطة، حتى بعد موافقة صندوق النقد على طلب المساعدة.
هناك العديد من الخيارات التي كانت متاحة، لمعالجة الأزمة الاقتصادية والمالية، ومعظم تلك الخيارات التي تعتمد حلولاً وطنية، دون المرور بصندوق النقد، تحتاج إلى جرأة سياسية من الحكومة، تحمّل المسؤولية للطبقة السياسية، والقيام بإجراءات تطال تلك الطبقة، عبر توزيع الخسائر حسب المسؤوليات، عندها يمكن الإفادة من تلك العملية، التي تؤمن مردوداً مالياً كبيراً، يغني لبنان عن مليارات الصندوق الملغومة، والقيام بإصلاحات في قطاع الكهرباء، واستغلال استعادة قطاع الإتصالات للدولة، وإعادة هيكلة جدية وحازمة للقطاع المصرفي، والتفكير بأهمية إنشاء مصارف متخصصة إلى جانب بنوك الودائع،  قادرة على الاستثمار بهدف التنمية الصناعية والزراعية وتطوير الخدمات، والقيام بورشة تشريعية لتعديل كل القوانين المتعلقة بالقطاع المصرفي، وخاصة التي تنظم علاقة المصرف المركزي مع المصارف، وكذلك تعديل قانون النقد والتسليف، بعد هيكلة المصرف المركزي، أو استبداله بمجلس للنقد، على أن يكون كل ذلك مصحوباً بإصلاح جذري في القضاء، ليصبح مؤهلاً في تحقيق دولة القانون، عبر استقلاليته وتفعيل دوره، مع إعادة النظر بكل المسار القانوني لعملية استكشاف واستخراج النفط والغاز، للمحافظة على حقوق الدولة، خاصة في ظل مآلات خطيرة لأسواق النفط وبدائل الطاقة، وكذلك إذا عرفنا بأننا نحتاج لسنوات للإنتاج وتحقيق المداخيل، كل تلك النقاط تشكل إطاراً داخلياً لحل الأزمة، وتوسيع دائرة علاقات لبنان الخارجية مع أي دولة صديقة للمساعدة، وعدم حصر تلك العلاقات بدول دون الأخرى، ووضع المصلحة الوطنية فوق أي اعتبار، ما يؤمن مظلة دولية تساهم في الاستقرار الداخلي على المدى البعيد، هذا الإطار الداخلي لحل الأزمة لاقى معارضة واسعة، نتيجة تعارضها مع مصالح الطبقة الحاكمة، ما يقوّض نفوذها السياسي والمالي، ويخفف من مدى تحكمها بالبلاد والعباد، لذلك كان مسارعة الحكومة للتوجه لصندوق النقد، بعد تأمين الغطاء السياسي من كافة القوى، التي ستنتهج مساراً مختلفاً لمواجهة شروط الصندوق ورؤيته الإصلاحية، التي تسبق الدعم المالي، وتصديها لفرض إجراءات، قد تمسّ المنظومة العسكرية والدفاعية والمالية لقوى داخلية مؤثرة، وهي تدرك بأن هناك مواجهات سياسية في مجلس النواب، كافية لتعطيل جوهر الخطة، أو التخفيف من تأثيراتها الموجعة سياسياً وشعبياً، وهذه المخاوف تعززها التجارب العديدة التي فشلت في تحقيق الإصلاح، ولعلنا سنكون أمام مرحلة صعبة تمتد لسنوات، قبل تلمس طريق الإنقاذ، في عالم يتغير باستمرار، ونحن مستمرون بفرادة التميز لمنع التغيير، مع اعتراف الجميع، بأن الخروج من المأزق لن يكون متاحاً بدون سلاح الوحدة الوطنية.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى