دراسةسياسةمحليات لبنانية

لبنان 2023: إفقار وتجويع وتهجير شباب..والاغتراب ينقذ اللبنانيين(د.علي فاعور)

 

بقلم د. علي فاعور* – الحوار نيوز

على مشارف العام 2023، بات لبنان في مقدمة الدول الأسوأ في العالم، فهو يعاني منذ ثلاث سنوات أزمات اقتصادية واجتماعية حادة، نتيجة السياسات الفاشلة في الحكم، ذلك أنه وبحسب تقييم البنك الدولي، فان “الكساد المتعمد في لبنان هو من صنع النخبة اللبنانية.. المختبئة خلف حجاب الطائفية.. والتي استولت على الدولة والمؤسسات الاقتصادية المرتبطة بها، منذ فترة طويلة وعاشت من ريعها الاقتصادي”، حتى باتت الأزمة اللبنانية “واحدة من العشرة الأوائل، وربما أكبر ثلاثة انهيارات اقتصادية في جميع أنحاء العالم، منذ خمسينات القرن التاسع عشر”، وهذه خلاصة تقرير مرصد الاقتصاد اللبناني لربيع 2021، الذي يُقارن أزمة لبنان مع الأزمات العالمية الأكثر حدة خلال الحقبة الممتدة بين 1858- 2013.

ونظراً لحدة الأزمة، فقد قدر البنك الدولي أن لبنان قد يستغرق ما بين 12 و 19 عاماً للتعافي، بل لقد وصلت البلاد الى حالة كارثية تمثل “انكماشاً وحشياً وسريعاً”، نتيجة ارتفاع الديون وانخفاض الناتج المحلي وارتفاع معدل البطالة وانتشار الفقر والجوع، وسرقة وتهريب أموال اللبنانيين، حيث يواجه لبنان، الذي يتمتع بتاريخ حافل بالحرب الأهلية والصراعات والعنف ، تهديدات بالغة لسلامه الاجتماعي الهش بالفعل، في ظل عدم وجود توافق سياسي ومبادرات فعّالة، حيث يستمر الدفاع عن النظام الاقتصادي المفلس..

 مخطط تمويل بونزي: لبنان الى المرتبة الأخيرة في العالم

شهدت الأيام الأخيرة من العام 2022 فضائح في ادارة الأزمة المالية وتوفير الخدمات للمواطنين،  وعمليات احتيال لا سابقة لها في تاريخ لبنان، ولا مثيل لها في العالم، من تسعير الدولار والتلاعب بالأسواق المالية والأسعار بعد تعاميم مصرف لبنان، واحتكار المحروقات، بينما يستمر الإنكار المتعمّد ودون مبالاة وسط احتدام سياسي في ظل الفراغ الرئاسي القائم، وتستمر معه محاولات تخدير الشعب اللبناني بالشعارات السياسية التي تحدث عنها البنك الدولي في مقدمة تقرير مراجعةالماليةالعامة (تموز 2022). وكذلك في “تقرير المالية العامة في لبنان: مخطط تمويل بونزي؟“، الصادر عن البنك الدولي  يوم 3 آب/أغسطس 2022، وعبر “رسالة موجهة إلى الشعب اللبناني”، حيث يُبيّن التقرير أن الكساد المتعمّد كان أيضاً مقصوداً وجرى الإعداد له على مدى الثلاثين عاماً الماضية.

 إن عنوان هذا التقرير، في الواقع، يتساءل إلى أي مدى كانت

 هذه العملية مخطط تمويل بونزي بدلاً من كونها مالية عامة.. يضاف إلى ذلك أن الطبقة السياسية الفاشلة في لبنان ،والتي تعيش اليوم في عزلة خارجية تامة على المستويين الدولي والإقليمي لا زالت تُغدق بالوعود حول محاربة الفساد وتحقيق الإصلاحات، لكنها بالمقابل تشجع الإحتكار والنهب وتؤمن حماية التهريب وتغطي بعض القضاء الفاسد، وتتمسك بحماية نظام المحاصصة المعتمد في  تشكيل الحكومات، وتمنع  التدقيق الجنائي والرقابة والمحاسبة، وتعطل عمل النيابة العامة المالية، وعدم إقرار قانون الكابيتال كونترول، بينما هي ترفض توزيع الخسائر بشكل عادل ضمن خطة الإصلاح المالي، وتتآمر مع المصارف والبنك المركزي، في تذويب حقوق المودعين وتبخّر الودائع، وتستمر في التآمر مع النافذين الكبار عبر السمسرات والتحويلات الإستنسابية وتهريب الأموال الى الخارج مستفيدة من تخاذل معظم القضاة، مما أدى إلى إنهيار الدولة وإفلاس الخزينة ونهب الودائع…

 

في هذا السياق، أصدر مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة تقريرا يتضمن ملاحظات مقرر الأمم المتحدة المعني بالفقر المدقع أوليفيير دي شوتر، أثناء زيارته الى لبنان بين 1 و 12 تشرين الثاني 2021 ، حيث وصف المشكلة المالية في لبنان بأنهاـ بمثابة “الجريمة ضدّ الانسان”، وأن ” حكومة لبنان تعيش في عالم خيالي وهذا لا يبشر بالخير،  فهي تخذل شعبها نتيجة ما قامت به من تدمير للعملة الوطنية، مما أدى إلى تخريب حياة الناس، وإلى “إفقار وحشي” للمواطنين وتعميق اوجه عدم المساواة. 

 مخاطر الأمن الغذائي: لبنان بين أكثر بؤر الجوع الساخنة في العالم

 

جاء لبنان في المرتبة الأولى عالميا على مؤشر البنك الدولي بالنسبة لتضخم أسعار الغذاء، وذلك بحسب بيانات جديدة للأمن الغذائي   عام 2022(حزيران/يونيو 2022)، متقدماً على زيمبابوي التي جاءت في المرتبة الثانية، وفنزويلا في المركز الثالث، كما تضم ​​القائمة مجموعة واسعة من البلدان التي تم تصنيفها على أنها متوسطة الدخل ، مثل سريلانكا وتركيا وإيران..

ويتبيّن أيضاً، بحسب تقرير جديد صادر عن اليونيسف (حزيران عام 2021) حول الطفولة “أن مستقبل جيل كامل من الأطفال في لبنان على المحك… إنهم يناضلون للتصدي لأحد أسوأ حالات الفساد الإقتصادي في  التاريخ العالمي الحديث”، كما أن  طفلا من بين كل طفلين  في لبنان معرض لخطر العنف الجسدي أو النفسي أو الجنسي، وأن حوالي 1.8 مليون طفل، أي أكثر من 80 في المائة من الأطفال في لبنان، يعانون الآن من فقر متعدد الأبعاد..

كما تكشف الأرقام نتائج مروعة على المستوى الإنساني، مئات الآلاف من الأطفال في لبنان معرضون للخطر، ينامون وهم جياع، بحيث أن 77 في المائة من العائلات اللبنانية ليس لديها ما يكفي من الطعام أو المال لتأمين حاجاتها للطعام وحده، وأن 60 في المائة من العائلات تقترض لشراء الطعام والأساسيات، أي أن 30 في المائة من الأطفال غير قادرين على تلقي العلاج اللازم أو الرعاية الصحية الأولية التي يحتاجون إليها، ولا يمكنهم الذهاب الى مدرستهم…وتشير البيانات الأخيرة أنه بنهاية عام 2022، سيحتاج 2,2 مليون شخص إلى دعم عاجل لتأمين الوصول إلى الغذاء في لبنان.

 

ونتيجة حالة اليأس المتصاعدة، في مواجهة الأزمات التي يرزح تحت ثقلها 90 في المائة من اللبنانيين، وفي بداية عام 2022، أصدرت منظمة الأمم المتحدة للطفولة، اليونسيف   في 28 كانون الثاني/يناير 2022، “تقرير  البحث عن الأمل”، نظرة قاتمة لشباب وشابات لبنان الذي يتأرجح عند حافة الهاوية، ممن تتراوح أعمارهم بين 15 و24 عاما، خارج دائرة العمل أو التعليم أو التدريب، حيث تبين أن: ” أن 3 من كل 10 شباب في لبنان قد توقفوا عن التعلّم، في المقابل خفّض 4 من كل 10 شباب من الإنفاق على التعليم” من أجل شراء المستلزمات الأساسية من غذاء ودواء ومواد أساسية”، وبالتالي، “ما لم يُصار سريعا الى تغيير الإتجاهات الحالية واتخاذ الإجراءات المناسبة، سينتج جراء ذلك، في المستقبل القريب، آثارا خطيرة على النمو والتماسك الإجتماعي في البلاد”.

 

كما أصدرت الأمم المتحدة تحذيرا مبكرا في تقرير صدر في أيار 2022، عن برنامج الأغذية العالمي ومنظمة الأغذية والزراعة (الفاو)،  لاتخاذ إجراءات إنسانية عاجلة في 20 بؤرة جوع ساخنة بينها أيضاً لبنان، ومن المتوقع أن يتفاقم الجوع فيها في الفترة الواقعة بين حزيران وأيلول 2022.

واشار التقرير إلى أن “جميع هذه الدول معرضة لخطر الانحدار نحو ظروف كارثية، حيث يواجه  السكان بالفعل المجاعة والموت في إثيوبيا واليمن وجنوب السودان والصومال وأفغانستان، لتنضم إلى أنغولا ولبنان ومدغشقر وموزامبيق التي لا تزال تشكل بؤرا ساخنة للجوع”.

كذلك وفي تقرير تموز  2021، في إطار مبادرة الشبكة العالمية لمكافحة الأزمات الغذائية، المشترك الصادر أيضاً عن برنامج الأغذية العالمي ومنظمة الأغذية والزراعة (الفاو)، لبؤر الجوع الساخنة في العالمٍ، وعددها 23 بؤرة جوع ساخنة ذات ظروف كارثية،  مهددة بانعدام الأمن الغذائي، بينها اليمن وسوريا ولبنان إلى جانب أفغانستان وإثيوبيا والصومال.

منظمات أممية: لبنان حالة كارثية والأسوأ  في العالم

 

  يتبيّن بحسب تقرير نشرته لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغرب آسيا (إسكوا) (يوم 15 تموز 2021)  عن حالة ما بعد كوفيد عام 2021 ، وشمل 22 دولة عربية، بعنوان “حقائق وآفاق في المنطقة العربية”، أن حالة لبنان هي الأسوأ (بالإضافة إلى حالة اليمن)، حيث إنهار ناتجه المحلي الإجمالي بنسبة 31.2٪ في عام 2020. كذلك وبحسب الدراسة الحديثة التي نشرتها  الإسكوا ايلول عام 2021، بعنوان: “الفقر المتعدد الأبعاد في لبنان 2019-2021، واقع أليم وآفاق مبهمة”، يلاحظ أن العدد الإجمالي للفقراء من اللبنانيين من خلال قياس مستوى الدخل،  قد تزايد بشكل سريع ليشمل نحو أربعة ملايين نسمة، أو ما مجموعه مليون أسرة من السكان المقيمين في لبنان (بينها 77 % من ألأسر اللبنانية، أي ما يوازي 745,000 أسرة لبنانية).

هذه الصدمات مجتمعة، أدت إلى إنتشار الحرمان على نطاق واسع  بين السكان اللبنانيين وغير اللبنانيين، حيث ارتفعت نسبة الفقراء من 28% عام 2019، إلى 55% عام 2020، لتبلغ 74 في المائة من مجموع السكان عام 2021، وفي حال مراعاة كل الظروف المعيشية، والتوسع  في قياس الأبعاد الأخرى كالصحة والحصول على الدواء، والتعليم والعمل، والكهرباء والخدمات العامة، ترتفع نسبة الذين يعيشون في فقر متعدد الأبعاد، أي حالة الحرمان في بعدين أو أكثر من أبعاد الفقر، الى  82 في المائة من السكان تحت عتبة الفقر (بعد أن كانت تبلغ 42% عام 2019).

-أما في نهاية عام 2022، وفي ظلّ أسوأ أزمة اقتصادية يشهدها لبنان منذ عقود، فقد أعلنت منظمات أممية (16/12/2022)، في بيان مشترك صادر عن المفوضية السامية لشؤون اللاجئين وبرنامج الأغذية العالمي، ومنظمة الأمم المتحدة للطفولة (يونيسف)، “أن 90 في المائة من اللاجئين السوريين في لبنان يحتاجون إلى المساعدة الإنسانية للتمكن من البقاء على قيد الحياة في ظلّ أسوأ أزمة اقتصادية تشهدها البلاد منذ عقود”، مما يستوجب مواصلة تقديم الدعم والحماية إلى الأُسر الأكثر احتياجاً في لبنان.

كذلك الحال بالنسبة للاجئين الفلسطينيين، “حيث يعيش جميعهم تقريبا في فقر مدقع ويُضطرون إلى إرسال أطفالهم للعمل وبيع الأصول القيّمة للبقاء على قيد الحياة، مما يجعلهم أكثر عرضة لانعدام الأمن الغذائي، وبحسب الأونروا، يعيش كل لاجئ من فلسطين في لبنان تقريباُ في فقر، فقد ارتفع متوسط تكلفة السلة الغذائية ستة أضعاف في العام الماضي، وهي إحدى أعلى الارتفاعات التي سجلها العالم هذا العام. 

وتؤكد آخر مؤشرات العام 2022،  ان اعداد النازحين السوريين الى تزايد في لبنان نتيجة تفاقم الازمات الاقتصادية والاجتماعية في سوريا، لا بل سوف يتزايد عددهم في العام 2023 نتيجة الحصار الذي تعاني منه سوريا على كافة المستويات، مما يدفع السكان للجوء الى لبنان عبر الحدود البرية والممرات غير الشرعية، حيث يحاول البعض منهم أيضاً الهجرة مع عائلاتهم في القوارب البحرية لطلب اللجوء في الخارج.

وفي مواجهة كل هذه الأزمات يعيش المواطن حالة من اليآس في لبنان، وبخاصة بالنسبة للفئات الفقيرة التي باتت تمثل الأغلبية، لهذا فقد جاء لبنان في المرتبة الأخيرة بمناسبة يوم السعادة العالمي  (20 آذار عام 2022)، بين الدول العربية برصيد 2,955، فهو الدولة الأكثر تعاسة والأقل سعادة بين 16 دولة ‏عربية شملتها الدراسة، بحسب إستطلاعات مركز غالوب العالمي من خلال تقييم الناس لحياتهم ومعاناتهم، وقد ‏جاءت البحرين في المرتبة الأولى على المستوى العربي برصيد بلغ 6,647، تليها دولة الإمارات العربية، ثم المملكة ‏السعودية، والكويت .

أما على المستوى العالمي، فقد جاء لبنان في المرتبة ما قبل الأخيرة، فهو الدولة الأكثر تعاسة بين دول العالم (بعد ‏أفغانستان)، حيث جاءت فنلندا كأسعد دولة في العالم.

الدولة وحش : الفساد السياسي لا يمكن السيطرة عليه

  لقد تسببت المستويات المرتفعة للفساد  السياسي بحدوث أزمات متعددة في لبنان،  بما في ذلك الانفجار الكارثي في ​​ميناء بيروت في عام 2020. أما بحسب مؤشر الفساد، فقد جاء لبنان في المركز 154 من بين 180 دولة في العالم، بحصوله على درجة متدنية (24/100 عام 2021)، حيث تراجع  بشكل ملحوظ على مؤشر مدركات الفساد الصادر عن مؤسسة الشفافية الدولية، أما على المستوى الإقليمي، فقد جاء لبنان في المرتبة 14 من أصل 21 دولة عربية في الشرق الأوسط ‏وشمال أفريقيا.

لقد كانحجم موازنة الدولة حوالى  17 مليار دولار، ثم  أصبح أقل من مليار واحد عام 2022،

كما كانحجم الاقتصاد يبلغ حوالى 55 مليار دولار، ثم  تراجع اليوم الى ما دون 18مليار دولار، ثم تزايد حجم الاستيراد من مستوى 13,4 مليار دولار عام 2021،  ليتجاوز 18 مليار دولار نهاية عام 2022.

 هذا التراجع في لبنان أدى إلى افقار اللبنانيين وحرمانهم من شبكة الأمان الاجتماعي نتيجة تفاقم الأزمات: أغذية فاسدة، وأدوية فاسدة، ورشاوى وسمسرات في الإدارة العامة، وعدم تطبيق القوانين والمحسوبيات، وتردي مستوى االقطاع العام وتراجع الخدمات: مياه، كهرباء، نفايات.. وغير ذلك..

 

وبعد قرابة سنة على بداية الأزمة الإقتصادية في لبنان ، وفي بتاريخ   30 تشرين الثاني/نوفمبر 2020 ، نشرت في افتتاحية جريدة Le Monde  مقالة بعنوان”لبنان: الدولة وحش لا يمكن السيطرة عليه” .. “لكن لبنان لم يعد دولة. أصبحت السلطة أكثر من أي وقت مضى في أيدي كارتل الأحزاب المجتمعية ، حيث يتعايش الوجهاء التقليديون وأمراء الحرب السابقون وتجار العربات. طبقة الأغبياء في السياسة العامة والعباقرة في السياسة.. معنيون بشكل أساسي بالحفاظ على أنفسهم في السلطة ، فقد طوروا فنًا لعرقلة المبادرات التي من المحتمل أن تضر بمصالحهم”..

هذا الواقع، أكد عليه أيضاً، البابا فرنسيس  في خطبة إلى الكاثوليك في جميع أنحاء العالم ،عشية عيد الميلاد 2022، معتبرا ان “مستوى الجشع والتعطش للسلطة بلغ حدا صار فيه البعض راغبا في استنزاف وقتل الآخرين “حتى وإن كانوا جيرانه”. ورأى البابا ان “الرجال والنساء في عالمنا، في نهمهم للثروة والسلطة، يلتهمون حتى جيرانهم وإخوتهم وأخواتهم”…

هذا ما أدى الى تفكك الركائز الأساسية في الاقتصاد السياسي في لبنان، وذلك بوجود الاحتكارات والجشع والمضاربات غير المشروعة والتهريب عبر الحدود، فقد تحوّل لبنان بكامله الى سوق سوداء للدولار والمحروقات والمواد الغذائية والأدوية، مما أدى الى إفقار اللبنانيين وتجويعهم..

الأزمة اللبنانية: الطبيعة المعقدة وغير المسبوقة

 إعتبر صندوق النقد الدوليّ في بيانه الصادر (11 شباط 2022)، في ختام مناقشات افتراضية (البعثة الافتراضية لصندوق النقد) ، أجراها مع السلطات اللبنانية حول إطار وسياسات برنامج الإصلاح الاقتصادي ، من 24 كانون الثاني إلى 11 شباط 2022  أنّ “الطبيعة المعقّدة وغير المسبوقة للأزمة اللبنانية تتطلّب برنامج إصلاح اقتصاديّ وماليّ شامل لتحقيق الاستقرار في الاقتصاد، ومعالجة التحديات عميقة الجذور “، حيث أكد على أولوية تعزيز الشفافية والمساءلة ومكافحة الفساد، وكذلك ضرورة “مصارحة اللبنانيين على حقيقة الخسائر في النظام المالي خصوصاً الفجوة في حسابات مصرف لبنان”، وإعادة تنظيم المؤسسات المملوكة للدولة، ولا سيّما في قطاع الطاقة،  وأهمية وضع استراتيجية واضحة للإصلاح المالي متوسطة الأجل، “وإعادة هيكلة القطاع المصرفي ثم إجراء عمليات تدقيق لحسابات مصرف لبنان، وإعادة النظر في النظام الضريبي، بحيث يمكن تخصيص مساحة للاستثمار في الإنفاق الاجتماعي الضروريّ لدعم الشعب اللبناني ومراعاة تأمين الحماية لصغار المودعين، بحيث تمثل ميزانية الطوارئ لعام 2022 فرصة للبدء في معالجة الوضع المالي الصعب، مع القدرة على تحمّل الديون” .

 

كما حصل تفاهم أولي بين صندوق النقد الدولي والحكومة اللبنانية في 8 نيسان 2022، حيث أعلن صندوق النقد التوصل إلى تفاهم يتضمن الخطوط العريضة التي تمهد لإقرار إتفاق نهائي  بشأن السياسات الاقتصادية من أجل تسهيل من الصندوق على برنامج تمويل قيمته نحو  3ملياراتدولارأميركي،على امتداد  46 شهرا، حيث  تركّزت الاهتمامات على الشروط المسبقة التي نصّ عليها الاتّفاق.

هكذا، فقد أقرّت الحكومة في آخر جلسة لمجلس الوزراء بتاريخ 20/5/2022، خطة التعافي المالي والاقتصادي، وضمّنهاوثيقةبعنوان “استراتيجيةالنهوضبالقطاعالمالي”،  وتضمنت الكشف عن “وجودخسائركبيرة  في مصرف لبنان تراكمت خلال سنوات عدة، وتجاوزت أكثر من 60 ملياردولار،ودون أية تدقيق أو مساءلة من وزراء المالية الذين أهملوا دراسة الحسابات المالية المرسلة سنوياً،، مما أدى إلى تفاقم العجز المالي وارتفاع قيمة الخسائر خلال عدة سنوات، بحيث وصلت إلى حدود 350 في المائة من الناتج المحلي”.. مما أدى إلى تسارع الانهيار المالي على كافة المستويات…

السلطة السياسية عاجزة.. ولبنان على مشارف الانهيار

لقد كان لافتاً ومفاجئاً ما ورد في البيان الصادر عن سفراء الدول الأعضاء في الاتحاد الاوروبي المقيمون في بيروت، بتاريخ 27 أيلول 2022، بخصوص حث الدولة على القيام بالإصلاحات، حيث ” يقف لبنان على شفير الانهيار، ويرى البعض إنّه قد انهار بالفعل. وتدلُّ جميع المؤشرات الاقتصادية إلى حالة مأساوية: التضخم المفرط، وخسارة القدرة الشرائية، والفقر المتزايد، وهجرة الأدمغة، وزوال الطبقة المتوسطة، وهي العمود الفقري للمجتمع اللبناني. ولا يحتاج اللبنانيون إلى المؤشرات الاقتصادية، فهم يشعرون بما يحدث بشكل يومي…… وبعد مرور أكثر من عامين ونصف العام على تخلُّف الدولة اللبنانية عن سداد ديونها السيادية، وتقديم الحكومة خطة إنقاذ اقتصادي ومالي، ما زال صانعو القرار اللبنانيون عاجزين عن تنفيذ التدابير الضرورية لانتشال لبنان من حافة الهاوية”.  وهذا ما سرّع وتيرة الإنهيار الإقتصادي والمالي..

 

لقد أدى تفاقم الأزمة الإقتصادية والمالية خلال السنوات الثلاث الماضية، الى تراجع نصيب الفرد اللبناني من الدخل القومي الإجمالي إلى مستويات تلامس الفقر، وللمرة الأولى منذ 25 عاماً، فقد وضع البنك الدولي لبنان في التصنيف السنوي (لعام 2022)، الذي يصدر في الـ1 من تموز كل عام، ضمن فئة “بلد ذي دخل متوسّط أدنى”، وذلك بعد أن كان “بلداً ذا دخل متوسّط أعلى”. وتستند التقديرات إلى نصيب الفرد من الدخل القومي الإجمالي للعام السابق 2021.

وقد أوضح البنك في تصنيفه أنّه “للعام الحادي عشر على التوالي، انخفض الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي للفرد في لبنان في عام 2021، وشهدت البلاد أيضاً انخفاضاً حادّاً في سعر الصرف”، وتشير جداول البنك الدولي إلى أنّ نصيب الفرد من الدخل القومي الإجمالي في العام 2021 بلغ 3.450 دولاراً بعد أن كان 5.510 دولارات في العام 2020.

 

أما ترتيب لبنان في أحدث تصنيف ربع سنوي في دراسة مجلة Euromoney البريطانية حول المخاطر الفردية لكل دولة حيث يجمع مؤشر مخاطر الدولة بين مجموعة من العوامل السياسية والاقتصادية والاجتماعية في بلد معين، فيتبيّن أن لبنان قد تراجع بشكل بارز بالمقارنة مع الفترة السابقة، حيث يتواصل الانحدار الطويل الذي بدأ في عام 2018 ثم تزايد عام 2020 بسبب الأزمة الاقتصادية والمالية ، وتداعيات الانفجار الذي دمر العديد من أحياء بيروت ومينائها في 4 آب ، ناهيك عن تداعيات وباء كوفيد -19في الربع الأخير من عام 2020 ، بحيث تراجع لبنان بنحو 40 مركزًا مقارنة بالفترة نفسها من العام السابق.

حيث جاء ترتيب لبنان على المستوى العالمي في المرتبة 169 في لائحة شملت 174 دولة، أما  على المستوى الإقليمي فكانت مرتبته 16 من أصل 18 دولة في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا ، وبعد دول مثل العراق وليبيا والسودان، متقدماً على اليمن وسوريا في آخر الائحة.

 

الهجرة الجماعية للشباب وتحويلات الإغتراب اللبناني تنقذ اللبنانيين

منذ عدة سنوات يتعرض لبنان لاستنزاف موارده البشرية، وقد أدت موجات الهجرة خلال السنوات الثلاث الماضية (2020-2022)، إلى خسارة لبنان بين 7 و 10في المائة (ما بين 250 و 300 ألف مهاجر) من اللبنانيين المقيمين على أرضه، والبالغ عددهم بحسب إحصاء إدارة الإحصاء المركزي نحو  ثلاثة ملايين و 862 ألف نسمة، بينما غالبية المهاجرين من الشباب أصحاب الشهادات الجامعية، وكذلك من الأطفال الذين تقل أعمارهم عن 18 عاماً، بحيث بات لبنان الدولة الأولى في العالم من حيث تناقص عدد السكان (بحسب بيانات اليونيسيف حول معدل النمو السكاني في العالم لعام 2020).

ومع تسارع الانهيار المالي الواسع وتراجع القدرة الشرائية، فقد بدأت تتزايد موجات الهجرة الجماعية من معظم الادارات والمؤسسات الرسمية، وهي قد شملت أصحاب المهارات وحملة الشهادات العلمية، وبخاصة من التقنيين العاملين في الدوائر والمؤسسات العامة، وتبدو الخسارة بارزة في بعض كليات الجامعة اللبنانية وبعض المستشفيات الخاصة، حيث تتسارع هجرة الأساتذة الجامعيين، والمدراء العامين وموظفي الفئة الأولى  في الدوائر الرسمية في الدولة حيث بلغت نسبة الوظائف الشاغرة نحو 70 في المائة (نحو 19 ألف وظيفة شاغرة)، في مؤسسات وإدارات  القطاع العام الذي كان يضم 27 ألف وظيفة قبل ثلاث سنوات…

وبحسب بيانات مجلس الخدمة المدنية، فقد بلغ عدد الذين تركوا الوظيفة خلال العامين 2020 و 2021، نحو 1100 موظف، كذلك الحال في مديرية التعليم الثانوي حيث بلغ عدد الذين تركوا الوظيفة او أخذوا إجازات بدون راتب نحو 2100 أستاذ، وهذا سيؤدي لاحقاً الى افراغ الادارة والمؤسسات التعليمية والصحية من  أصحاب الخبرة الذين فضلوا  الهجرة للبحث عن عمل في الخارج وبخاصة في البلدان العربية..

كما شملت حركة الهجرة مؤسسات القطاع الخاص، لا سيّما في القطاع المصرفي الذي يواجه أزمة غير مسبوقة أدت الى اقفال بعض الفروع المصرفية، واستغناء بعض المصارف عن موظفيها، بحيث إنخفض عددهم الى نحو 17 ألف موظف بعدما هاجر  نحو 5000 منهم مع عائلاتهم للعمل في الخارج.

 

وفي آخراستطلاع أجرته مؤسسة الباروميتر العربي والذي شمل12 دولة في منطقة الشرق الأوسط وشمالي أفريقيا،وطال اكثر من 26الف شخص،واستمرمن تشرين الاول 2021 وحتى تموز 2022. حيث تبيّن أن 92 في المائة من اللبنانيين لا يثقون بالسلطة، وأكثر من ثلثي الشباب (63%) يرغبون بالهجرة، وأن لبنان معرض لخطر هجرة العقول، بحيث أن 61 في المائة ممن لديهم شهادات جامعية يرغبون بالهجرة…

 كذلك وبحسب البنك الدولي، فان نحو 53 في المائة من المهاجرين هم من المهندسين والاطباء، وأصحاب الشهادات العليا، كما ان نحو 44 في المائة من المهاجرين لديهم مؤهلات جامعية وأن عدد الاطباء المهاجرين ، بحسب نقابة الاطباء، يتراوح بين 3000 و 3500 طبيب هاجروا منذ تشرين اول عام 2019 وحتى نهاية عام 2021.

في الاطار نفسه، نشرت «إدارة الإحصاء المركزي» في (آب 2022) بعض الأرقام التي تشير الى ان أكثر من نصف اللبنانيين تقريبا يعيشون بدخل أدنى من 100 دولار…وأن 52 في المائة من المقيمين يرغبون في الهجرة، و 51 في المائة من المقيمين فقدوا التغطية الصحّية، و 49 في المائة من الأسر لا يتجاوز دخلها مليونين و400 ألف ليرة لبنانية.

في مواجهة كل هذه الأزمات، يتبيّن أن باب الخلاص الوحيد يتمثل بدعم الاغتراب اللبناني، والمساعدات التي يقدمها المغتربون  لذويهم لمساعدتهم على الصمود، فهو الذي يمد شريان الحياة الى اللبنانيين ويمنع الانفجار الاجتماعي، وكما أظهر تقرير نشره البنك الدولي في شهر أيار 2022، أن لبنان يعتبر من أكبر الدول تلقياً للتحويلات المالية حيث جاء في المرتبة الثالثة لجهة تحويلات المغتربين ضمن منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في العام 2022 (نحو 6,8 مليار دولار)، كما أن نصيب الفرد من التحويلات المالية في لبنان هو الأعلى بين الدول العربية، بحيث بلغ مجمل تدفقات تحويلات المهاجرين الوافدة إلى لبنان للفترة بين 2002 – 2020، ما مجموعه 121,5 مليار دولار أمريكي، بحسب إحصاءات البنك الدولي بناءً على قاعدة بيانات  صندوق النقد الدولي، كما أنها في الحقيقة أعلى بكثير، وقد مثلت نحو 33 في المائة كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي عام 2020.

وبينما خابت توقعات العام 2022 ، وبعد اجراء الانتخابات النيابية  في 15 أيار الماضي،  لتكون بداية مرحلة التغيير المنتظر لخروج لبنان من أزماته  وإجراء الاصلاحات اللازمة، حيث دخل اليوم مرحلة جديدة من التعطيل والفراغ السياسي مما سيؤدي الى اطالة عمر الأزمة وزيادة معاناة اللبنانيين وخسارة لبنان موارده البشرية…

في الخلاصة لبنان على مفترق خطير، فهو يخوض اليوم أسوأ أزمة اقتصادية منذ ثلاثة عقود، لقد فشلت الدولة بكل مؤسساتها الدستورية في تقديم الحلول للمشاكل القديمة والحديثة، كما فشل النموذج الاقتصادي والمالي، حيث باتت المؤسسات السياسية والادارية والمالية على شفير الانهيار والانفجار الاجتماعي، وهناك اجماع اليوم على حاجة البلاد لعقد اجتماعي جديد لوقف تدهور الأوضاع واعادة بناء الدولة..

وهذا ما ذكره الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، خلال مقابلة مع ثلاث وسائل إعلام بما في ذلك صحيفة النهار اللبنانية اليومية، نشرت يوم الجمعة في 23 كانون اول/ديسمبر 2022، حيث قال إنه من الضروري “تغيير قيادة” لبنان، و “الإفراج” عن السياسيين الذين يعرقلون الإصلاحات، كما أعرب عن أسفه للهجرة الجماعية للشباب، حيث يستمر الفراغ الرئاسي منذ انتهاء ولاية الرئيس عون في 31 أكتوبر/تشرين الأول، وذلك في ظل حكومة مستقيلة تتولى تصريف الأعمال، وغياب التوافق السياسي على شخصية تتولى رئاسة البلاد. وهو الذي حاول جاهداً منذ أيلول/سبتمبر 2020 إقناع الطبقة السياسية بالعمل لتغيير النهج المعتمد في الحكم وإجراء الإصلاحات اللازمة لخلاص لبنان من أزماته.

 

 

 

*أستاذ جامعي وخبير في السكان والهجرة.

 

 

 

 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى