إعلامثقافة

رؤية شاملة بين الإعلام القرآني.. والإعلام “السلطاني” (فرح موسى)

 

بقلم د.فرح موسى – الحوار نيوز

هناك سؤال يطرح:كيف يمكن لنا تقييم ما يشهده عالمنا اليوم من مظاهر إعلامية في ظل تقدم وسائل الاتصال بين الناس؟وهل ثمة موقف قرآني يؤسس لقواعد إعلامية ثابتة ومؤثرة في صناعة الرأي العام وتوجيهه؟

إن التدبر في آيات الله تعالى،وكذلك في أحاديث النبي وأهل بيته،يكشف لنا عن حيوية الأطروحة الإعلامية في حياة البشر،وذلك من مبدأ أنه ما من نبي أو رسول إلا وكانت له ثوابته ووسائله في التواصل مع الناس لهدايتهم وإثارة دفائن عقولهم،ولهذا قال النبي ص:”إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق:”،فالبعث هنا هو حيوية فعل وإثارة لتحقيق القيم والمبادىء السامية،وتثبيت قواعد السلوك الإنساني الهادف بما يخدم تحولات الإنسان وتطلعاته في الحياة،وهل الإعلام في جوهره غير أن تكون للإنسان تجلياته في الفكر والسلوك وتحقق القيم وتواصل الأفكار والعلاقات لبناء حياة أفضل!؟

 

فالإعلام ليس مجرد خبر،أو تحليل،أو محاورة تتعلق بشؤون الناس وأحداثهم،وإنما هو وسيلة لأهداف تواصلية سليمة يعتمدها الإنسان لتبيان الحقائق ،وكشف الضلالات،وتوجيه الناس وفق مقتضيات ومصالح في الدين والدنيا.ولا شك في أن وسائل الاتصال والتعارف بين البشر كانت ولا تزال تختلف باختلاف التحولات الإنسانية والحضارية،وتقوم على ركائز ثابتة لا تتغير وفق الأهواء والمصالح،لأن الهدف هو المعرفة وصناعة الموقف الملائم لقدسية الهدف الذي يراد تحقيقه،وهذا ما يوجه إليه القرآن الكريم لجهة أن يكون الناس على تواصل وتعارف،ذلك أن الأصل في الخلق والوجود هو هذا،أن يتعارفوا ويتسابقوا في الخيرات،ويكفي دليلًا على هذا، هو ما كانت تحدثه النبوات من تحولات وتغييرات في بنى الاجتماع البشري بما كان يتوفر لديها من وسائل وإمكانيات للتعليم والهداية وتبادل المعلومات والمعارف.

وهكذا،نرى أن الإعلام الإسلامي الذي يقدّمه القرآن يأتي في سياق رؤية شاملة متكاملة لما ينبغي أن يكون عليه الناس في تحاورهم وتعارفهم وتفاعلهم مع الأحداث،وكذلك مع الأخبار التي غالبًا ما تكون على صلة وثيقة مع الواقع المجتمعي،وقد جاء الوحي لأجل إغناء هذا الواقع بالتجارب النبوية الصحيحة كما جاءت بها أخبار الوحي ليتعاضد الواقع معها وتكون له تفاعلاته السليمة،لأن الواقع الاجتماعي يحتاج إلى ثوابت وسنن ينطلق منها في تأسيساته حتى لا يكون مرتهنًا للخرافات والأساطير التي أريد لها دائمًا أن تكون حاكمة لتسهيل مهمة ووظيفة الإعلام المستبد في حياة الناس!إن ما يقدّمه القرآن في الجانب الإعلامي،يأتي في إطار رؤية مركزية شاملة تربط الإعلام بولاية الأمر،كما قال تعالى:”وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم…”،وهذا إن دل على شيء ،فإنه يدل على أن الإعلام ليس منفصلًا عن أطروحة الإسلام الشاملة للحياة،كما أنه يدل على ضرورة أن يكون الإعلام وسيلة لحفظ الأمن وإزالة الخوف وربط الأمور بمصادرها الحقيقية منعًا لأي خلل في إدارة شؤون الأمة أو الدولة،ولكن لما حيل بين الإسلام وبين أن تكون له شمولية الحكم والموقف خرج الإعلام عن دائرة الإسلام ليكون رهينة المصالح والغايات السلطانية،وهذا ما طالعنا به أهل التاريخ وكل من كتب في التراث الإسلامي،أن الإعلام لم يبق في دائرته المقدسة وتحول إلى أداة لدعم أصحاب الأموال والسلطة،فخرج عن كونه جزءًا من أطروحة الإسلام الشاملة ليكون كلًا في إطار دولة السلطان!وهذا ما دفع بكثير من الباحثين إلى التمييز بين الإعلام القرآني والإعلام السلطاني،وكانت نتيجة ذلك التحول في الإعلام من حيث هو وسيلة ليصبح هدفًا بذاته،فأنتج التكاذب والتحريف في الوسيلة والغاية معًا!؟

فالإعلام القرآني هو إعلام إنساني أخلاقي بالدرجة الأولى،ولا يمكن توظيفه ليكون في خدمة الخطاب الحزبي أو الطائفي، بدليل أن إعلام النبوات كان يتجاوز كل ذلك في الهداية والرعاية والتغيير،فلم يكن إعلامًا متجاوزاً للواقع وتكاذب أخباره وأساطيره،وكانت النبوة تحدث فيه التغيير بخطابها الإنساني بلحاظ التجربة الواقعية والوحي معًا.وهكذا،فإن أطروحة القرآن في التأسيس لقواعد الإعلام يمكن النظرإليها على نحوين،فهي إما تكون مأخوذة بلحاظ الطابع الشمولي التكاملي للنظرية الإسلامية كما يظهّرها القرآن،وإما أن تلحظ في أجواء ما تقدّمه من قواعد وتأسيسات عامة،طالما عرفنا أن القرآن يتحدث عن الإعلام ومركزيته في إطار حقيقة الحكم الإسلامي للأمة والدولة،أما وقد حصل هذا التشظي في الرؤية،وفي ظل ما أحدثته التحولات الحزبية في تاريخ الشعوب والأمم،فإنه يمكن لنا تبيان حقيقة الموقف القرآني مما ينبغي أن يكون عليه الإعلام في واقع التخلي عن رؤيته الشاملة؛فنقول:إن ما نتعايش معه من إعلام اليوم هو إعلام تراثي بامتياز،إذ لم تعد لهذا الإعلام ركائزه الثابتة،ومبادئه السامية،فهو إعلام حزبي وطائفي ومأجور،بخلاف ما هو عليه الأمر في الرسالات السماوية،فإذا كانت تجارب التراث الديني قد أخفقت في تظهير الرؤية الإنسانية والأخلاقية للإعلام،فإن عالمنا اليوم يعيد الكرة في تبني الحزبية في التعبير الديني والعلماني معًا،وهذا ما تسبب بتجزئة الموقف،وتجاوز قواعد السلوك العامة في العمل الإعلامي،وبحق نقول:إن كل نداء في القرآن هو نداء إعلامي،سواء كان للناس،أو للمؤمنين،أو لأهل الكتاب،وهو نداء لا يختلف في مضمونه لجهةما يتضمنه من دعوة إلى الصدق في العلاقات،وإلى الحرية في الخيارات والمعتقدات،وليس غريبًا عن هذا النداء،الموقف،ما عرضت له الكتب المقدسة من وصايا للتأثير على الخطاب الإعلامي لجعله أكثر إنسانية وأكثر أخلاقية؟فالوصايا هي إعلام السماء إلى الأرض،وهي خطاب الصدق والوفاء مع الله والناس،فماذا أنتم فاعلون أيها الإعلاميون المرتهنون لأحزاب السلطة والمال؟فأنتم كما قال لكم عيسى ابن مريم ع:”إنكم إذا لم تثبتوا في الوصايا فلن تثبتوا على محبة الله:”،!؟

لقد أخطأ البعض حينما اعتبر الإعلام مجرد أداة لنقل الخبر السياسي،أو لخدمة الرجل السياسي،أو لتوجيه الرأي العام وفق المعتقد الحزبي أو الطائفي،فهذا كله مما لا يقدّس مهمة أو وظيفة الإعلام التي يؤديها الإنسان،لأنه،كما قلنا،للخبر حيثية تربوية ذات تأثير مزدوج في النفس والواقع،ولعل من أهم ما عرض له القرآن في ذلك،هو قوله تعالى:”ولقد جاءهم من الأنباء ما فيه مزدجر:”،وهي أخبار صادقة جاء بها القرآن لتكون موضع اهتمام واعتبار بهدف التغيير في الواقع الاجتماعي والسياسي للناس،ولم يؤت بها للتسلية وقد بيّن الله أنها أنباء وليست مجرد أخبار!لقد أخرج الإعلام في عالمنا المعاصر من كونه مهمة تغييرية ليكون وسيلة تكاذب لخدمة أصحاب السلطة والمال،وإذا كان من مقومات الإعلام الثقافة كما يرى أصحاب هذه المهنة،فما هو نوع هذه الثقافة المطلوبة إذا لم يفقه الإعلامي معنى تحولات التاريخ وصراعات الأمم في أجواء التدافع الديني والسياسي والحضاري عمومًا؟ وهنا نسأل:أين هو الإعلام من خدمة التنوعات الدينية حتى لا تتناقض المبادىء،وتتصادم الأمم على فتات الجيف؟ إن الإعلام الذي يعمل في خدمة المال والسلطة لا يؤمن عليه في العمل التغييري،ولو تأملنا جيداً في حالة إعلامنا المعاصر لوجدنا أنه إعلام مأزوم ومأجور ومنقول وممجوج إلى حد الصلافة في ما هو متحقق به من تكهنات الأخبار وغلبة الأشرار،ولهذا نلاحظ أنه حيث تكون الأموال تكون الأخبار والأكاذيب،وحيث تكون الأحزاب تكون ترددات ومفاعيل العصبيات وحميات الجاهلية،وحيث تكون العمالة يكون إعلام التكذيب والتحريف وخيانة الأمانة !.

 

 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى