منوعات

عن زيارة لوطن في البال في عيون مهاجرة (1) (هدى سويد)

 

 هدى سويد ـ إيطاليا

 

في زيارتي الأخيرة للبنان ولمدينتي بيروت ، كتبت على صفحتي الفايسبوك أكثر من نص ، عبّرت ربما من خلاله عن كل ذاك الشوق وما تخلّله من بعض لقاءات .

أتوقف اليوم في نصي هذا الذي يتناول ما لم أدوّنه بعد عن زيارتي التي تمّت ما بين أيار ـ مايو وحزيران ـ يونيو، وعمّا خالجني من شعور اللقاء والغربة لغاية عودتي مُجدّدا إلى إيطاليا.

 مكثت هذه المرة دون رهان أو حسبان ، ولعلّ مكوثي كان أكثر ممّا انتظرت وتوقعت.

تعرّفت من جديد على الوطن الذي غبت عنه لثلاث سنوات خارج إرادتي. 

أودُّ القول إنه بالرغم من قراءتي اليوميّة للحاصل على الأرض ، وتواصلي الدائم مع الأهل والزملاء والأصحاب ، ما جعلني على بيّنة بأن ما نمر به كمقيمين ومغتربين ، هي الظروف الأصعب التي مررنا  بها ربما خلال عشرين عاما من الحرب .

لكن الشك كان ينتابني، وكنت أجدني أنسف من ذهني أفكارا سوداوية تجول في رأسي الصغير، الذي لا أدري كيف بوسعه تحمّل واختزان  كل ما يطرأ في أرضه وسمائه ؟

أجدني أنسف أفكارا سوداوية من كثرة ما سمعت وقرأت ،

كأن أصل إلى بلد تسوده العتمة في غياب شركة الكهرباء وجشع تجّار المولدات الكهربائيّة، وأن أجد الشوارع صحاري نظرا لارتفاع أسعار النفط والمحروقات، ومحلات البقالة والسوبرماركات تهوي في فراغها من شدة ارتفاع الأسعار!

 

***

.. وصلت فجرا وكانت المدينة تشع بأضوائها ، طرقاتها رغم البيوت المُظلمة وهذا صحيح ،

فيما بعد جلت نهارا سيرا أو بمعية قريب ، صديق ، أو بوسيلة نقل كي أتفقد البلد، والتقاء من جئت للقياه ، 

راعني  ما تشهده البلاد من شوارع مزدحمة بسيارات وباصات على خلافها ،

ومساء لم تكن الشوارع أفضل حالا من نهارها  ، نخشى الإصطدام بالسيارات الفخمة المُصطفة أمام المطاعم والمقاهي بعد عودتي مع الصديقات من مسرح ولقاء ، مُشيرة إلى يرافقني ” آلاف الدولارات يا صديقتي !”.

ليست أموال السيّاح وحسب بل تعود لمترفين من مُقيمين ومهاجرين .

يعمي الخارج من شدة لمعانه ، وكما نقول ببساطة “ليس كل ما يلمع ذهبا “،

الجسد شيء والروح أمر آخر.

 وصدقا أقول أن الأمر مختلف ما بين الإنتقال من مواقع التواصل الإلكترونية إلى التواصل الاجتماعي الحقيقي ،

وصدقا أقول أنني سعيت الإعتياد على الإعتيادي في زيارتي ،وإن كان هو الوطن نفسه الذي سعينا دوما  الإعتياد على الإعتيادي بأوجهه المختلفة  منذ كان .

اضطررت حقا التعرف لأول مرة على بلد جديد ، رغم معرفتي بانهيار البلد وعملته وبالرغم كل ما قرأت وكل تواصل كان!

أن أتدرب بالفعل ( وأنا غير البارعة في الحسابات )على كيفيّة التعامل بتداول عملتي الوطنية ، والحق يُقال أنني أخفقت أكثر من مرّة ، وكان على من رافقني توجيهي وإسعافي أكثر من مرّة . كان عليّ على سبيل المثال استيعاب أن فنجان القهوة أغلى سعرا من أوروبا رغم استيراده من دول فقيرة ، وأن الأسعار بالآلاف دوما  ، وأن  600 ألفا ليست 60 ألفا ، وأن المليون ليس مئة ألف ، وفي زيارتي القادمة سأخفق إن تأخرت وعليّ التدرب والإعتياد من جديد على الاعتياد .. إلاّ أن ما أدهشني كيف أنّ اللبناني قادر رغم الأثقال ، على ضرب الأخماس بالأسداس دون حتى العد على الأصابع ، لعلّ ذلك يعود لأمرين: إمّا لما تركه الفينيقي في ذاته وإمّا لما مرّ به من مصاعب .

الزيارة السريعة وإن دامت شهرا، إنما هي كناية عن صمت ، قهر وغضب وعزة نفس ، يُحيطك بها حبّا وكرما من فقدوا أنفاسهم وأضواء غدهم وما زالوا جاهزين لمنح الحب والحياة لك أنت القادم من الغربة ، من بعيد ، 

أعلم أنّ الزيارة  ليست كالعيش اليومي ، ولا كالأيام التي تتوالى بثقل عيشها على المواطن المقيم بدءا من لائحة المُستحيلات أي تأمين الدواء ..

في السابق كان المغترب يحمل حقائب الهدايا، أما اليوم فيسأل قبل قدومه لوطنه “الأم والأب” ، عن أسماء الأدوية المستحيلة ، إما لسبب عدم توفرها وإما لعدم التمكن من شرائها، وفي الحالتين هي في لائحة المُستعصيات ( دون أن ينسى بالطبع تأمين صيدليته الصغيرة الشخصية منعا من المفاجآت) .

 وقدر لي أن أعيش يوما حال المقيم وصادفته شخصيا، باحثة ما بين صيدلية وأخرى عن دواء ، إلى أن نصحني أحد الصيادلة الإتصال بتركيا أو دولة أوروبية لأن ما أبحث عنه مفقود (بالطبع عبر صيدلية أو تاجر!) ،ومن خلال التجربة كما لاحظت بأن البديل ليس فعّالا على الدوام كالذي اشتريته والقادم من أثينا مثلا أو ربما غيرها من الدول التي حلّت .

في حين يبقى الدخول إلى المستشفى من الأمورالمخيفة والمروعة  التي تقلق البال! (وإن كانت بعض الحلول خرجت إلى حيز الضوء على مستوى القطاع العام، أما ما تبقى فلا نعلم مصير المرضى !).

أما الصيدليات فلغى معظمها قياس ضغط محتاج بعذر الكوفيد ، عذر لا إنساني ولا ينطلي على مريض !

وبينما لقمة العيش هي من ثاني لائحة المستحيلات مع ارتفاع الأسعار أضعافا  ، وبالتالي لعلّ المشهد يكتمل برؤية تهافت رب وربة العائلة ما بين سوبرماركت وآخر للإستفادة من عروض الأسعار ، ولا استفادة حقّة من التجّار لو اتعظنا!

ومن اللقمة لغاية تأمين محروقات السيارة التي قد تتطلب ربع الراتب أو أكثر، أما الكهرباء التي انقضى على مهزلتها ما يقارب الخمسين عاما منذ اندلاع الحرب 1975 ، واشتراكات المولدات التي تتطلب راتبا أو أكثر ،

بينماالمصارف فموضوعها جريمة ونهب ، أبقى المسؤلون تعب العمر  في صناديقها دون الإفراج عنها ، وليس بصحيح أن كل  مغترب ذاق (وينطبق الأمر على المقيم) لوعة خسارة ما جناه طوال عمره يتمتع بروحية صافية لا يعكرها الألم أو حتى الرغبة بزيارة بلده  . 

كل الأمور الحياتية باتت متعذرة دون شفاء ، أمّا الأمور الثانوية المُستحبة باتت متعذرة كتناول فنجان قهوة  في مقهى ، لأن الحياة اليوميّة محسوبة على الدولار والمنصات!

أسمع الشكوى شكوى الآخر وشكواي ، غضب الآخر وهناك من يريد الرحيل وهناك من اعتاد !

أمام محطة تلفزيونية يتجمع مطالبون بحقوقهم لا يعكس عددهم حجم المأساة ، تستضيفني  المحطة الرسمية المتوقفة اليوم ولها الشكر، فأدخل إلى استديو وبي خشية الوقوع في حفر تغطيها قماشة فيمسك بيدي مرافقي منبها حذار الوقوع ، موظفون بلا رواتب يدفعهم شغف العمل .

البلد قائم لوحده هكذا بمشيئة التجار ومغامرات المستثمرين والصرافين .

وللحديث تتمة …

 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى