سياسةمحليات لبنانية

لأن إنقاذ لبنان أهم من الحاكم والفاسد والظالم:8 خطوات ضرورية للخروج من الأزمة

 

د.محمد خليفة
ها نحن في قلب العاصفة، ننثر الكثير من الغبار والدخان لنخفي الحقيقة، ويبذل أركان النظام السياسي اللبناني ما يملكون من قوة المال والإعلام والحزبية والطائفية والمذهبية، لإقناع الناس بأن المشاكل التي يتخبطون بها مجهولة المصدر، ويصعب تعقب عدوى انتشارها في زمن الأوبئة المستجدة، والمجددة للحزن وإزهاق الأرواح، في ظل عولمة الموت ورأسمالية هشة، سخرت إمكانيات الدول وثرواتها ومواردها، لحجز أمكنة لها في سباق التسلح، ومارست وحشية التسلط على الدول الفقيرة وشعوبها، لكنها أخفقت في لملمة جراحات مواطنيها، وقادتهم إلى الموت السريري، بسبب عجز أنظمتها الصحية عن إنقاذ النفس البشرية.
سقطت الأقنعة عن الطبقة السياسية في لبنان، بزعمائها وأحزابها ومصارفها، ووجدت الحكومة الجديدة نفسها مقيدة، بأحزمة سياسية ومذهبية مدعومة من حيتان المال ورواد الدولة العميقة، هذا إذا كان هناك من دولة أصلاً.
نحن أمام انهيار شامل في لبنان، فجميع القطاعات أصابها الترهل والركود والعجز، فتفاقمت الأزمة الاجتماعية التي ظهرت ملامحها قبل الاحتجاجات الشعبية في 17 تشرين الأول 2019، التي طالبت الطبقة السياسية وأحزابها بالتنحي، واستعادة الأموال المنهوبة ووقف الهدر والفساد، والدعوة لبناء دولة القانون وعمادها القضاء.
وبعد خلط الأوراق الداخلية، وتشكيل حكومة جديدة برئاسة حسان دياب، الذي وعد بقيادة عملية إصلاحية، تخرج لبنان من أزمته القاسية، وتعيد الاعتبار لمؤسسات الدولة وتنفيذ القوانين، وإنقاذ البلد من الانهيار الكامل، برزت ملامح جدية لإعداد خطة اقتصادية ومالية، تعالج الخلل في المالية العامة وإعادة هيكلة الدين العام، ودعم القطاعات الإنتاجية، مع تحديد سقف زمني لتلك الخطة، واعتماد المرحلية في معالجة الأزمة حسب الأولويات، التي تفتح أبواب الحلول المستدامة للمشاكل الاقتصادية والاجتماعية والمالية والنقدية.
وفي غمرة التحضيرات للحلول الحكومية للخروج من الأزمة، وقع لبنان كما جميع دول العالم ضحية جائحة كورونا، التي عطلت نشاط الكون اقتصادياً وسياسياً، ما فاقم الأوضاع في لبنان، الذي يعاني من الأساس من مشاكل تهدده بالانهيار والإفلاس، نتيجة فشل القطاع المصرفي في تأمين السيولة اللازمة لتلبية سحوبات المودعين، ما هدد بكارثة مالية تطال الناس وجنى أعمارهم ولقمة عيشهم ومستقبلهم، وأفقد الثقة بهذا القطاع، الذي شكل على مدى عقود من الزمن رافعة الاقتصاد وركيزته، وعامل اطمئنان للمقيمين والمغتربين وكذلك لغير المقيمين، وشكلت المصارف اللبنانية عنصراً أساسياً في الحفاظ على الاستقرار النقدي والمالي.
الآن حصل الانهيار الذي حذر منه الكثير من الخبراء الصادقين، الذين اُتهموا بتشويه سمعة لبنان والتشكيك في سياسة مصرف لبنان وهندساته المالية، التي  ساهمت في متانة الأَوضاع النقدية والمالية والحفاظ على سعر الصرف الرسمي للدولار، بالرغم من الكلفة العالية لاجتذاب العملة الأجنبية ومعدلات الفوائد العالية.
الآن سقطت كل العلاجات المهدئة وظهرت هشاشة السياسات النقدية والمالية، وانكشفت المصارف على الودائع نتيجة شح السيولة بالدولار، ولم تنفع ترقيعاتها للمعالجة عبر اعتماد سقوف لسحوبات الدولار، وتطبيقها للكابيتال كونترول على قياس كل منها، مع عجز المصرف المركزي للتدخل، للجم اندفاعة المودعين للمطالبة بسحب ودائعهم وخاصة بالدولار، في ظل تهاوي العملة الوطنية، نتيجة الضغط على الدولار وانعدام التدفقات المالية من الخارج، كما وقف المصرف المركزي متفرجاً على تهريب الدولار للخارج في ظل الأزمة، في استنسابية فاضحة للتعامل مع المودعين، بحيث مارست معظم المصارف سياسة إذلال واضحة للناس، وحرمانهم من سحب ودائعهم، وعدم احترام حتى السقوف المحددة للسحوبات، وما فاقم من الأزمة تعاميم مصرف لبنان المتخبطة والغامضة والعشوائية، التي أكدت انهيار العملة الوطنية أمام الدولار، والارتفاع الجنوني للأسعار بالتوازي مع أزمة كورونا، وارتفاع معدلات الفقر والبطالة وإقفال المؤسسات الكبيرة والصغيرة، وسط تخبط حكومي بطريقة التعاطي مع سياسات المصرف المركزي وحاكمه، الذي يمارس صلاحيات واسعة فشلت في احتواء الأزمة المالية، بالرغم من نجاح السياسة الحكومية في احتواء انتشار فيروس كورونا، بالتعاون الواسع مع المجتمع الأهلي وبمواكبة مؤثرة من المؤسسات الإعلامية.
ونظراً لخطورة الأوضاع، وفي ظل افتضاح ألاعيب القطاع المصرفي في ضياع الودائع، واستحالة تأمين سحوبات بالدولار مهما كان حجمها، تحولت ودائع الناس إلى مجرد حسابات دفترية، وراحت الجهات المعنية بتقاذف الاتهامات في ما بينها، بحيث أن المصارف تتهم الدولة بالهدر، وعدم قيامها بإصلاحات جدية في المالية العامة والقطاع العام، ما جعلها عاجزة عن تسديد مستحقات المصارف، التي وظفت أموال الناس في سندات الخزينة أو شهادات الإيداع، وقامت بتغطية العجز في الموازنات العامة وأمنت كلفة خدمة الدين العام، وبسبب تقاعس الدولة عن دفع الديون المتوجبة عليها للمصارف، فإنها غير قادرة على تأمين ودائع الناس، وفي المقابل هناك من يتهم القطاع المصرفي في الإستفادة من الفوائد العالية، عبر توظيف ودائع الناس في سندات الخزينة، مع تيقن المصارف بعجز الدولة عن التسديد، ما يضع الودائع في مخاطر عالية، ومع ذلك قامت بهذه العملية، ما أفقد الناس ثقتها بتلك المصارف وتهافتها لسحب الودائع.
لقد تم تقدير الودائع المجمعة في المصارف بأكثر من 180 مليار دولار، منها حوالي 50 مليار دولار بالعملة الوطنية، وعند إجراء عملية مقارنة بين الموجودات والمطلوبات، يتبين أن هناك عجزا بأكثر من 60 مليار دولار، وهناك تقديرات بأن العجز أكثر من 80 مليارا، وهذا الرقم قريب من تقديرات الحكومة للخسائر بقيمة 83 مليار دولار، ما يعني في أفضل الأحوال أن هناك موجودات في المصرف المركزي والمصارف بحدود 50 مليار دولار، ومن غير المؤكد إن كانت هذه الموجودات عبارة عن سيولة جاهزة للاستخدام .
ماذا يعني ذلك وكيف الخروج من المأزق؟
هناك صعوبة في الوقت الراهن من تأمين العملة الأجنبية، في ظل الركود الاقتصادي العالمي وأزمة كورونا، وكذلك هناك معارضة شديدة من الجميع باقتطاع أي نسبة من الودائع وتحت أية مسميات، إن كان عبر حسم الفوائد الخيالية التي استفاد منها كبار المودعين، أو اقتطاع نسبة من رأس المال، مما يعقد إيجاد مخارج لتلك المشكلة، في ظل استمرار التجاذبات السياسية بين مختلف القوى السياسية، على حساب تعاون الأفرقاء، لإيجاد حلول سريعة تؤخر الانهيار الشامل للبلد.
أمام استفحال الأزمة المالية لا بد من التفكير بمنطق وطني، يساعد في إنقاذ لبنان من سقوطه الخطير، الذي يهدد وحدته الوطنية ويزعزع استقراره، وينذر بعواقب مدمرة على كافة الصعد، لذلك من المفيد تقديم عدة ملاحظات، يمكن أن تساهم في إنقاذ الوطن وهي كما يلي:
أولاً: الإقلاع عن الخلافات السياسية والاعتراف بالأزمة ومحاولة اجتراح الحلول ووقف تبادل الاتهامات عن الحقبات السابقة وإنشاء طاولة حوار سياسية بمشاركة الأحزاب السياسية ورؤساء الطوائف الروحية ورؤساء الكتل النيابية وممثلين عن الحراك الشعبي والمجتمع المدني والخروج باتفاق صريح بوقف الحملات الإعلامية وإبداء كل تعاون مع الحكومة والمجلس النيابي، لتشكيل قوة دعم وضغط في آن واحد، لتطبيق إجراءات الخروج من أخطر أزمة وطنية في تاريخ البلاد، عبر خطة موضوعية توحي بالثقة، وتبتعد عن سياسات الانتقام وتسجيل النقاط، لتعزيز فرص النجاح في أجواء مؤاتية لإنضاج الحلول.
ثانياً: تغيير حاكم مصرف لبنان لإخلاله بواجباته الوظيفية، التي قادت إلى تأزم الأوضاع النقدية والمالية وتدهور العملة الوطنية، وفشله في الحفاظ على متانة وملاءة وسيولة القطاع المصرفي، ومساهمته في تشويه سمعة لبنان، بعد إعلانه التوقف عن دفع سندات اليوروبوندز في استحقاقات متتالية، نتيجة السياسة النقدية المعتمدة والضرر الذي لحق بالمالية العامة للدولة، والقيام بهندسات مالية قاقمت من حجم الدين العام، والتسبب في إفراط المصارف في استخدام أموال المودعين في توظيفات ذات مخاطر عالية، مع العلم اليقيني بعدم قدرة الدولة على الإيفاء بالتزاماتها، وتكرار هذا السلوك بهدف تحقيق الأرباح العالية على حساب ودائع الناس، التي تحولت إلى مجرد حسابات دفترية مع شح في السيولة خاصة بالدولار، والمساهمة في تأزيم الوضع النقدي عبر القيام بتحويلات مالية للخارج، لها علاقة بأصحاب المصارف وكبار النافذين السياسيين، وحرمان أصحاب الودائع من الحصول على نسبة من تلك الودائع، في ظل عجز المصرف المركزى على ضبط القطاع المصرفي ومنع تحويل الأموال للخارج، التي كان بإمكانها التخفيف من الأزمة، وأن تعيد بعضاً من الثقة التي ضربت في الصميم، نتيجة السياسات المصرفية التي دمرت قطاعاً حيوياً، يمكنه رفد القطاعات الصناعية والزراعية بقروض تنعش الإنتاج، وتوقف عجز الميزان التجاري الذي يشكل عاملاً أساسياً في عجز ميزان المدفوعات، خاصة بعد تراجع تحويلات المغتربين وهروب رؤوس الأموال من لبنان، لعدم وجود بيئة استثمارية مشجعة، وبسبب الفساد المستشري في مفاصل الإدارات الرسمية والخاصة، وبحال تذرع الحكومة بصعوبات قانونية وسياسية، تمنع إقالة حاكم مصرف لبنان، عليها ضبط سياساته العبثية، وتحميله مسؤولية الحفاظ على الاستقرار النقدي، ووقف انهيار العملة الوطنية، ومعالجة ارتفاع معدلات التضخم.
ثالثاً: إعادة هيكلة القطاع المصرفي، بعد محاسبة الإدارات الفاسدة في أكثر من مصرف، ووضع يد الدولة على المصارف المخالفة، وجذب مساهمين جدد لتكوين رأسمال، يساعد في تأمين السيولة بالدولار، وتحديد حجم المسؤولية في هذا القطاع، وإعادة الهيكلة تتم بعد تغيير حاكم مصرف لبنان وإعادة هيكلة المصرف المركزي، وتعديل قانون النقد والتسليف، بما يتوافق مع مشاركة السلطة التنفيذية في تطبيق السياسات المالية والنقدية المحددة من قبل الحكومة، ووضع آليات واضحة وشفافة، تمنع تفرد الحاكم في مصير البلاد وانهيار عملته الوطنية.
رابعاً: إقرار قانون انتخابي جديد، يأخذ في الاعتبار التغييرات الجوهرية في المشهد الداخلي اللبناني، والاحتجاجات الشعبية التي طالبت بالتغيير الجوهري في أداء السلطة والأحزاب السياسية، وهذا القانون يعبر عن تطلعات أجيال الشباب وطموحاتهم، وتحفيزهم على المشاركة السياسية، وإجراء الانتخابات في موعدها، كون تقصير ولاية المجلس الحالية قد يعطل إجراءات التغيير، واستنفار الطبقة السياسية وتوحدها لمنع التغيير، كما من المفترض تطبيق الوعود بتمثيل المغتربين لإعادة الثقة بوطنهم، والاعتماد على المصداقية في هذا التمثيل بعيداً عن الحسابات الطائفية والمذهبية الضيقة.
خامساً: القيام بكل ما يلزم من خطوات لتعزيز القضاء واستقلاليته، ووضع قوانين تساعد في تحقيق هذا الهدف، الذي يعتبر أساساً لدولة القانون والمؤسسات.
سادساً: تعزيز إنتاجية القطاع العام ومرافق الدولة، وإعادة الثقة لهذا القطاع، القادر أن يثبت جدارته في تأمين الخدمات للمواطنين، وإعادة تنظيم إدارات الدولة، وتدعيم النظام الصحي في لبنان، بعد نجاح المستشفيات الحكومية في مواجهة أصعب الأزمات الصحية، التي ضربت العالم واستطاعت الكوادر الطبية مع المتطوعين من الجامعه اللبنانية مواجهة فيروس كورونا باللحم الحي، وضرورة متابعة الدعم لتطوير تلك المستشفيات، واتخاذ هذا القطاع نموذجاً يمكن تعميمه على مؤسسات عامة، قادرة منافسة القطاع الخاص أو الشراكة معه، بعد إجراء عملية إصلاحه ليكون مؤهلاً لهذه الشراكة.
سابعاً: وضع ملف النفط والغاز في لبنان في دائرة الاهتمام والشفافية، وإعادة النظر عند الضرورة بكل القوانين والمراسيم التي تحفظ حقوق الدولة، والاستفادة من تجارب الدول الأخرى وتنقيتها من الشوائب الكبيرة، التي حولتها من نعمة إلى نقمة، والإسراع في عملية التنقيب والاستخراج، في ظل تطوير العديد من دول العالم لبدائل الطاقة، والصراعات المستمرة التي تحكمت في أسعار النفط العالمية.
ثامناً: المسارعة إلى استغلال الثروة المائية، وإنشاء السدود اللازمة بعيداً عن التجاذبات السياسية، التي عطلت الإستفادة من القروض المقدمة لهذه الغاية، والتصدي لمحاولات العدو الإسرائيلي في نهب مياه لبنان وموارده الطبيعية.
هناك الكثير من الاقتراحات للخروج من الأزمة، ولكن يوجد القليل من الوقت للإنقاذ، ووقف الانهيار المدمر ومنع الفوضى والحروب الداخلية، وتعزيز الانصهار الوطني في ظل الوعي الشعبي، لعدم الإنجرار نحو التقاتل الطائفي والمذهبي، الذي أثبت صعوبة تحقيق أي طرف انتصاراً كاملاً للتحكم في البلد، كما أن التجارب السابقة أثبتت أنه لا يوجد رابح في الحروب، بل يخرج الجميع منها خاسراً.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى