رأي

من أرشيف سليم حيدر:نحن في لبنان فئات ثلاث ..سلبيتان وإيجابية

 

كتب د.حيّان سليم حيدر – الحوار نيوز

     من موروثه الفكري محاضرة في موضوع التربية والتعليم بعنوان “التعمير من الأساس” لوزير لبنان المفوَّض في إيران يومذاك الدكتور سليم حيدر، ألقاها في بيروت في 17 كانون الثاني سنة 1949 بدعوة من الندوة اللبنانية.  وكلام المُحاضر يطول (5000 كلمة تقريبًا) بأسلوبه الأدبي كما بحرصه على الوضوح في كلّ شيء.  

ومع تصاعد وتيرة الكلام عن لبنان “الذي نريد”، وبالعودة إلى سردية “معضلة لبنان الكبرى” – ذاك العصيّ على الصلاح – إقتبست من المحاضرة ما بدا لي، وما زال، وصفًا دقيقًا لكلي الداء والدواء، المشكلة والحلّ، الحالة والإستحالة.  يقول المُحاضر:

 

 

“نحن في لبنان فئات ثلاث: سلبيتان وإيجابية.

– لبنان بلد واسع، على صغر مساحته، أوسع ممّا يجب أن يكون.  ينبغي أن تبتر منه أجزاء لنتخلّص من سكانها، فيعود وطنًا صغيرًا لقوم معينين، يعيشون فيه منكمشين على أنفسهم، ينظرون إلى الأفق، على تماوج البحر.

     تلك السلبية الأولى.  إنها إنعزالية إنكماشية، إذا سمحتم بالتعبير !

– لبنان بلد صغير.  صادراته لا توازن وارداته.  لا زراعة ولا صناعة ولا إنتاج.  إنّه جزء من كلّ.  إنّه لا يستطيع أن يعيش بكيانه الحالي.  يجب أن يذوب الجزء في الكلّ، على وهج الصحراء.

     تلك السلبية الثانية.  إنّها إندماجية مفرطة !

– لبنان، بحدوده الحاضرة، كيان حقيقي، يمكن أن يعيش ويجب أن يعيش.

     تلك هي الإيجابية !

     الإيجابيات تستند إلى التاريخ والدين واللغة والتربية… إلى جميع عناصر القومية، تقرّرها كما تشاء، وتفسّرها كما تشاء…

     والدين يلعب دوره المهم في تقسيم هذه الفئات.  على أن من الإنصاف القول أن الفئة السلبية الإندماجية فيها من الطائفتين، كما أن الفئة الإيجابية مزيج متوازن منهما.  وإذن فالدين ليس وحده هو السبب !

     الفئتان السلبيتان، الإنكماشية والإندماجية، تعتنقان حرية التعليم المطلقة وتناضلان من أجلها.

     والفئة الإيجابية ترى التوجيه في سياسة المدرسة.

     وكلّ ذلك طبيعي !

     نعم.  لا تجفلوا !  كلّ ذلك طبيعي !

     أن يكون في لبنان فئة تريد بتر قسم منه لتستقل بالآخر.  ذلك طبيعي.

     وأن يكون في لبنان فئة تنكر وجوده.  ذلك طبيعي.

     وطبيعي أن تتشبّث كلّ منهما بحرية التعليم المطلقة، لتزرع مبادئها في نفوس التلاميذ الطريئة.

     بقي عليّ أن أقرّر حقيقة: وهي أنّ الفئة الإيجابية هي الأكثر عددًا والأقوى عددًا.  وذلك أيضًا طبيعي.

     فماذا يجب أن نعمل لنحافظ على الجميع؟  ولنعيد إلى الحظيرة من اعتقدوا –  واعين أو مأخوذين – بوجوب تركها؟…

      فنحن لا نريد أن نفقد من لبنان لبنانيًا واحدًا، نحن الإيجابيين !”

     وأتساءل معكم: هل أنّ ما سبق كان نقاش العام 1949؟؟  أم أنّه حوار اليوم؟

ثمّ يتابع المحاضِر ليشرح:

     “لبنان رقعة من الأرض على شاطىء المتوسط، في قلب الشرق الأدنى.  تعاقبت عليه المدنيّات: الفينيقية والرومانية واليونانية والبيزنطية والحثّية والمصرية القديمة والعربية.  وتركت جميعها ما كوّن تراثه القائم، تراثًا زاخرًا ممتازًا، والصفتان معنيّتان، بكلّ ما فيهما من قوة.

     لغته العربية، وهو من أركان نهضتها.  مركزه في قلب البلدان العربية، وتشدّه إلى هذه البلدان صلة الأخوة وصلة الجوار وصلة التاريخ ووحدة المصالح والوحدة الجغرافية قبل كلّ شيء.  على أنه منذ القدم كان محافظًا على ذاته، وعلى ميزاته الخاصة، وعلى إستقلاله الروحي.  أمور يجب ألّا ننساها، لأنّها كيان لبنان: إنّه همزة الوصل بين الشرق والغرب !

     لبنان بلد عربي، لا شك في ذلك، جغرافيًّا واقتصاديًّا ولغةً وشعورًا بذاته.  أما العِرق، فليس في الكون أمّة خالصة.  على أنّ أخلص ما في نسب لبنان، في نسب القسم الأكبر من أهله – مسيحيين ومسلمين – هي العروبة.

     تربطه بالبلاد العربية صفة العروبة، كما تربطه بتركيا، مثلًا، صفة الشرقية.  ولو لم يغالِ الإندماجيون بالقول أن هذا الجزء من الكلّ يجب أن يذوب في الكلّ، لما غالى الإنكماشيون بالقول أنّهم من غير نسب.  فالتَفَيْنُق ردّ فعل في لبنان، ليس إلّا.

     أمّا الإيجابيون، وهم الكثرة الساحقة، فيعرفون أنّ لبنان بلد عربي، ولا يفرّطون بشبرٍ واحد من كيانه الحاضر.  ليست العروبة هي الوحدة !

     ولبنان ليس عربيًّا وحسب.  إنّه تاج العروبة.  إنّه التاج.  أليس التاج صغيرًا، ثمينًا، منمنمًا، متألّقًا، ينبوع إشعاع؟…

     ولكن لبنان أكثر من بلد عربي.  إنّه بلد إنساني.  إنّه بلد الفكر والروح، بلد التساهل، بلد الإخاء.  ومنذ القرن الثاني والعشرين قبل ميلاد السيد المسيح، ولبنان يدرّس اللغات الأجنبية، ويتلقّف ثقافات العالم، لتشعّ منه مبلورة صافية.  إنّه نافذة على البحر.”

…..  …..  …..

__________

     وفي مجال آخر يقول سليم حيدر: “عظمة الرجل أن يكون جوابًا على سؤال”.  

     يا أيّها اللبناني السؤال، لا أظنّك تريد قراءة أيّة حجج إضافية، كما ولا أظنّني مستعدًّا لإضافة حجّة واحدة.  وبعد.  وقد تحوّل “تماوج البحر” فعدّل في “الإنعزالية الإنكماشية”، ومعه تحوّرَ “وهج الصحراء” فبدّل في “الإندماجية المفرطة”، سأسألك الآن: هل أنّ اللبناني الجواب سليم حيدر، اللبناني العربي العروبي الإنسان الذي أبحر في حضارات العالم ودرس ثقافاتها المتعدّدة حتى أتقن لغاتها، غربًا خاصة وشرقًا طبيعيًّا، هل ما زال ذاك الحلّ – الحلم صالحًا؟  هل عظمة لبنان السؤال… أن يكون لبنان الجواب؟

     وطوينا قرنًا بكامله على لبنان الكبير، وفي طيّاته الدستور والميثاق والصيغة والسيادة والإستقلال.  و”تقدّم” اللبناني فَحوّل السلبيتين إلى سلبيات… وألغى الإيجابية الوحيدة: اللقاء للقاء، والحوار للحوار، وثائق وبنود وأوراق وصيغ وكلام من فوق السطوح، وتواريخ “مجيدة”: 8 و 14، بحيث أمست معها المواطنة العيش المشترك السويّ معًا (؟؟؟) وفي أساساتها الفَدْرَلة والكَنْتَنَة فالتقسيم، وتشكيلة متلوّنة من صُنوف الإرهاب الفكري، من “عقيدة” “الذين لا يشبهونا”.

     لا يا سليم، لغة اليوم أبدًا لا تشبه لغة الأمس، لا في بلاغتها ولا في أسلوبها ولا في حسّها الوطني ولا خاصة في إنسانيتها … لا… لا تشبهها بشيء !

أيّها اللبنانيون… إلى التعمير من الأساس.

 

بيروت، في 29 آذار 2024م.   

                                

                     حيّان سليم حيدر

                                                                               

مواطن بحاجة إلى “تعمير من الأساس”.

 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى