سياستان، موقف واحد (سعدالله مزرعاني)

الحوارنيوز – صحافة
تحت هذا العنوان كتب سعدالله مزرعاني في صحيفة الأخبار يقول:
أن يكون لك سياستان متعارضتان أو متناقضتان، فهذا أمر شائع في الفعل السياسي غير المراقب: في هذه المرحلة أو تلك، أو في هذا الشأن أو ذاك. أمّا أن تكون لك دائماً سياستان، واحدة معلنة وثانية على النقيض منها، ممارسة وحقيقيةً، فذلك أمر ربما كانت المملكة السعودية هي الأكثر اعتماداً له وعليه.
أكثر ما برز ذلك أثناء وطوال الحرب على الشعب الفلسطيني وقضيته وحقوقه، خصوصاً في المرحلة الممتدة من عملية «طوفان الأقصى» في 7 أكتوبر 2023 (أي قبل حوالى عشرين شهراً) إلى يومنا الحالي. كانت قيادة المملكة على وشك الانتقال من تشجيع و«مباركة» الاتفاقيات «الإبراهيمية» بين بعض دول الخليج والكيان الصهيوني المغتصب، إلى انضمامها هي، رسمياً وعلنياً، إلى هذه الاتفاقيات.
أعلن ذلك، بالصوت والصورة وبشكل احتفالي، ولي العهد السعودي محمد بن سلمان، عبر شبكة «فوكس نيوز» الأميركية في 21 أيلول من عام 2023. لم يكن صعباً الربط بين ذلك الإعلان وعملية «طوفان الأقصى» التي حصلت بعد أقل من ثلاثة أسابيع من الإعلان المذكور. مكانة السعودية الدينية في العالم الإسلامي لا يضاهيها فيها أحد! إلى ذلك، المملكة ذات نفوذ طاغٍ في منطقة الخليج، أكبر مصدِّر للطاقة في العالم، ما يجعل منها لاعباً اقتصادياً مؤثراً في مجريات الأحداث والعلاقات والتوازنات في كامل منطقة الشرق الأوسط، وأحياناً على المستوى الدولي.
هذا ينطبق على الوضع الفلسطيني بالطبع. تخطّت القيادة السعودية بذلك مقرّرات قمّة بيروت لعام 2002 التي أقرّت مبادرة ولي العهد السعودي آنذاك وممثّلها في القمّة الأمير عبدالله (الملك لاحقاً). أساس المبادرة المقرّة التطبيع العربي الشامل مع إسرائيل، مقابل إنشاء دولة فلسطينية على حدود عام 1967 وعاصمتها القدس الشرقية.
الواقع أن مبادرة القمّة، المبنيّة على الاقتراح السعودي، كانت عملية إعراب عن الرغبة، من طرف واحد، في السلام والتطبيع الشامل مع المشروع الصهيوني الذي قام على الاغتصاب والتشريد ويستمرّ بالعدوان والتوسّع. العدوّ المحتلّ قاتل، دائماً، وطوال ثمانية عقود، من أجل منع قيام دولة للفلسطينيين حتى في حدود «اتفاقية أوسلو» رغم ما انطوت عليه من الاختلال والتخلي… شكّل الإعلان السعودي الجديد، إذاً، إعلاناً مدوياً عن التنكر العلني والفعلي لمقرّرات قمّة بيروت، وعن الانتقال إلى مرحلة التطبيع المجّاني مع العدو ومكافأة وحشيته وعدوانيته.
أربكت عملية «طوفان الأقصى» القيادة السعودية. هي استحضرت فوراً السياسة المزدوجة. واحدة معلنة تطالب بوقف القتال وإقامة دولة فلسطينية، وثانية ممارَسة متواطئة، عبر تعطيل كل إمكانية للضغط على إسرائيل وواشنطن خصوصاً: لإقرار تسوية سياسية تبدأ بوقف إطلاق النار وتبادل المحتجزين، وتنتهي بإقرار مسار ذي مصداقية لإقامة دولة فلسطينية وتطبيق القرار الدولي بشأن حق العودة.
عوضاً عن ذلك، تركّز الهمّ الرسمي السعودي على إبراز «الدور القيادي» لولي العهد، لتأتي قرارات القمم العربية والإسلامية التي احتكرت الرياض التحكّم الكامل بمجرياتها ونتائجها، ذات طابع إعلامي وشبه تهريجي: عبر التوجّه إلى «دول القرار» بحثاً عن الحلّ والتسويات! هذا وكأنّ المملكة ليست هي الأدرى بأن واشنطن هي مصدر القرار الوحيد في استمرار وتمادي العدوان الإسرائيلي، من جهة، وفي أي مسعى إلى بلورة نهاية سياسية للأزمة تمكّن الفلسطيني من استعادة بعض حقوقه، من جهة ثانية.
كان في استطاعة القيادة السعودية دفع القمّة إلى اتخاذ قرار عام بتجميد اتفاقيات ومعاهدات التطبيع مع العدو، أو التهديد بما هو أهم…لكن شيئاً من ذلك لم يحصل، لأن المملكة واصلت سياسة الالتحاق بالموقف الأميركي ومنع أو تمييع أي تحرّك رسمي عربي متضامن مع الشعب الفلسطيني ومناهض للفاشية الصهيونية وداعمها الأميركي بالدرجة الأولى.
إزاء صمود المقاومة في غزة ودعم مسانديها، تصاعد الإجرام الصهيوني إلى مستوى حرب الإبادة. واشنطن واصلت، من دون كلل، توفير كل مستلزمات استمرار الوحشية الصهيونية، وتبريرها، وحمايتها مهما طال الزمن. أمّا الرياض، فلم تتردّد في الاحتفال، بشكل غريب، بانتخاب دونالد ترامب (صاحب مشروع «صفقة القرن») رئيساً أميركياً لولاية جديدة. هي سارعت إلى توطيد علاقتها به عبر صفقات سياسية وعسكرية، ومالية بأرقام خيالية، تسابقت إلى إبرامها مع أبو ظبي وقطر… من دون أن يكون للوضع المأساوي في غزّة، أي نصيب من الحضور على طاولة المفاوضات.
يستمر الأمر على هذا النحو المخزي، رغم تمادي العدو في القتل والتدمير والتجويع إلى درجة أن بعض أقرب حلفائه بدأوا يضيقون بأساليبه البربرية غير المسبوقة وبانعكاساتها السلبية، السياسية والشعبية، عليهم.
أمّا في لبنان، فتمارس الرياض استثناء من النوع الذي يثبّت القاعدة ولا يلغيها. منذ «اتفاق بايدن» بـ«وقف الأعمال العدائية» بين المقاومة ولبنان والعدو الإسرائيلي، شمّرت الرياض عن ساعديها وتخلّت عن «حردها» وحذرها لتنشط في مسعى ومحاولات دؤوبين لتنفيذ مطالب العدو. هذا رغم أنه يواصل الحرب من طرف واحد عبر التمدّد والتوسّع والاغتيالات والتدمير في المناطق التي كان يستهدفها أثناء الحرب الشاملة على لبنان طوال ستين يوماً.
شكّلت الرياض مع واشنطن ثنائياً للضغط والوصاية والابتزاز: الأمر لنا! السلاح أولاً وليس، مثلاً، السلاح في مقابل الانسحاب! الإعمار والمساعدات ممنوعة من أي طرف، قبل تسليمه! هذا ما تذكّرنا به، كل مساء، قنوات «سيادية» أبرزها الـ LBC.
لا عجب، فـ«مملكة الخير» بتمون. وهي سبقت أن أجرت تمريناً ناجحاً برئيس الحكومة الأسبق سعد الحريري وبتياره، بنجاح منقطع النظير! ثم إن ذلك يشكّل امتداداً للسياسة الفعلية (غير المعلنة) للمملكة في كل المراحل السابقة. لكنّ للمسألة جانباً آخر، هو أن قيادة المملكة تسمح لنفسها بما ترفضه للآخرين. هي تقود عملية ثأر من المقاومة التي تضامنت مع «أنصار الله» في اليمن، سياسياً ولوجستياً، ضد خصومهم المدعومين من قيادة المملكة.
هذا إلى ثار آخر في سوريا حيث دعم «حزب الله» مباشرة سلطة الرئيس بشار الأسد ضد خصومه، دولاً (بينها السعودية) ومنظمات وأفراداً، توافدوا من كل بقاع الأرض، بقيادة واشنطن، لإيصال رئيس منظمة إرهابية إلى الحكم في سوريا! هذا الرئيس، هو، وليس شعب غزة المطاردة أطفاله ونساؤه وشيوخه بالقتل والجوع والمرض، مَن حظي ببركة الرياض، وباعتراف ترامب و«أولي الأمر» في واشنطن، علماً أنه صنيعتهم!
الرياض تلعب الآن دوراً سلبياً وخطيراً في دعم خطة عدوانية موجَّهة ضد كل لبنان وكل الشعب اللبناني. ما هكذا تكون الأخوّة أو تكتسب «القيادة»!
* كاتب وسياسي لبناني