فصل الدين عن الدولة: من بطرس البستاني والكواكبي الى انطون سعادة

لم يكن مبدأ فصل الدين عن الدولة وإزالة الحواجز بين الطوائف ومنع رجال الدين من التدخل في السياسة اختراعاً جديداً أسقطه أنطون سعادة على المجتمع بشكل فوقي أو استبدادي. بل كانت هذه الأفكار في صلب نقاشات أعلام النهضة ومثقفي البلاد منذ منتصف القرن التاسع عشر. وقد يكون أحد أسباب تخلف مجتمعاتنا حتى اليوم وغرقها في الحروب والانقسامات الطائفية والمذهبية، أن حركة النهضة الثقافية التي انطلقت في القرن التاسع عشر، وكل الأحزاب السياسية والحركات التغييرية في المنطقة، لم تستطع تطبيق هذا المبدأ، الذي كان هو أحد أهم أسباب نهضة أوروبا في القرن السابق، بعد ثورة "لوثر" الإصلاحية والثورة الفرنسية، التي أسست لقيام الثورة الصناعية وتطور العلوم بشكل مضطرد.
وكان فرنسيس مرّاش (1836 – 1873) أحد المثقّفين الحلبيين المتنوّرين الذين عبّروا عن هذا التوجّه باكراً، حيث شخّص المشكلة بأنّ مسألة انتشار "التمدن" في "مملكة التوحّش والعبودية" هي مسألة تحوّله من "مجتمع فسيفسائي" إلى "مجتمع مدني"، ورأى أن حلّ هذه المسألة ممكن بواسطة تطبيق "شرائع التمدن وقوانينه". فدعا مرّاش أبناء بلاده، وخصوصاً العرب، إلى "محبة وطنية منزهة عن أغراض الدين" وهو ما يعني إحلال "حب الوطن" أو "الرابطة الوطنية" محلّ "حب الملة" أو الرابطة الملّية.
والإمام عبد الرحمن الكواكبي (1854 – 1902)، كان من أوائل الذين دعوا الى فصل الدين عن الدولة وهو شيخ معمم ومشهور… وهو رأى أنّ سبب ما أصاب العرب والمسلمين من تخلّف هو الاستبداد الناجم عن وصاية الدين على السياسة. لذا دعا الكواكبي إلى "التفريق ما بين السلطات السياسية والدينية والتعليم ولا يجوز الجمع منعاً لاستفحال السلطة"، ويتلخّص موقف الكواكبي في قوله: "دعونا ندير حياتنا الدنيا ونجعل الأديان تحكم في الآخرة فقط".
وكان تأثير الكواكبي كبيراً لاحقاً على الشيخ عبد الحميد الزهراوي رئيس المؤتمر السوري في باريس عام 1913، وعلى الدكتور حسن الأسير، والدكتور خالد الخطيب أحد أبرز الوجوه الوطنية في مدينة حماه السورية. ذلك أن هؤلاء جميعهم قد رفضوا الدولة الدينية وركّزوا على فصل الدين عن الدولة وتابعوا الطريق الذي شقّه الكواكبي.
ودعا شبلي شميّل (1850 – 1917) إلى فصل الدين عن الحياة السياسية، باعتباره السبيل للخلاص من الاستبداد وتشكيل إرادة عامة حرّة تتفق على الخير العام. يقول: "لا يمكن الاتفاق على ما هو الخير العام إذا لم تتوافر الحرية، وبالأخص حرية الفكر. ففي الحكم الفردي الاستبدادي يسيطر عضو من أعضاء المجتمع على الآخرين بالقوة ويضع مصالحه فوق مصالحهم. كذلك لا تكون إرادة عامة بدون وحدة اجتماعية تقوم عليها، مما يقتضي فصل الدين عن الحياة السياسية. إذ أنّ الدين هو عنصر تفرقة، لا بحد ذاته، بل لأن رؤساء الدين يبذرون الشقاق بين الناس، مما يبقي المجتمعات ضعيفة. والأمم تقوى بمقدار ما يضعف الدين. فهذه أوروبا، فهي لم تصبح قوية ومتمدنة، فعلا، إلا عندما حطم الإصلاح (إصلاح لوثر) والثورة الفرنسية سلطة الإكليروس على المجتمع. وهذا يصح أيضاً على المجتمعات الإسلامية. إذ إنّ ما أضعف الأمة ليس الإسلام أو القرآن بل سلطة رجال الدين."
بدوره، ألحّ فرح أنطون (1874 – 1922) على مسألة الفصل بين السلطة الزمنية والسلطة الروحية، في إطار ما وصفه ألبرت حوراني بـ "نظرية فرح أنطون في الدولة"، التي تقوم على الحرية والمساواة. ولخّص أنطون أهمية ذلك الفصل في أسباب خمسة:
"أولها، إن غايات السلطتين تختلف، لا بل تناقض بعضها عن البعض الآخر.
ثانياً، إن المجتمع الصالح يقوم على مساواة مطلقة بين جميع أبناء الأمة، تتعدى الفروق في الأديان.
ثالثاً، إن السلطات الدينية تشترع للآخرة، لذلك كان من شأن سلطتها أن تتعارض وغاية الحكومة التي إنما تشترع لهذا العالم.
رابعاً، إن الدول التي يسيطر عليها الدين ضعيفة. فالسلطات الدينية ضعيفة بطبيعتها، لأنها تحت رحمة مشاعر الجمهور، وهي تسبب بدورها ضعف المجتمع، لأنها تلح على ما يفرّق بين الناس؛ والجمع بين الدين والسياسة مما يضعف حتى الدين نفسه.
خامساً وأخيراً، إن الحكومات الدينية تؤدي إلى الحرب. فمع أن الدين الحق واحد، فالمصالح الدينية المختلفة تتعارض أبداً بعضها مع بعض."
وكان المعلم بطرس البستاني رائد الذين نادوا بفصل الدين عن الدولة، وذلك عام 1861 إثر أحداث 1860 الدامية التي وقعت خاصة في جبل لبنان بين الموارنة والدروز وسقط خلالها ضحايا كثيرون وأدت الى مآس وأحزان كبيرة. فقد كتب المعلم بطرس البستاني داعياً الى "فصل الرياسة عن السياسة" أي فصل الدين عن الدولة، وإبعاد رجال الدين عن التدخل في السياسة. وقد نادى في الكثير من مقالاته بضرورة قيام دولة عصرية تستند الى القوانين والدساتير التي تُصنع لصالح البشر ولحسن سير العدالة بينهم، بعيداً عن المشاحنات والعصبيات الدينية التي لا تُنتج سوى الحروب والمآسي.
فكتب مقالاً في صحيفته "نفير سوريا"، عام 1861، ضمنه دعوة صريحة إلى وجوب وضع حدّ فاصل بين السلطة الرّوحية والسلطة المدنية؛ لأنّ ذلك هو شرط التقدّم والنهضة. وقد جاء فيه:
".. وما دام قومنا لا يميّزون بين الأديان التي يجب أن تكون بين العبد وخالقه، والمدنيات التي هي بين الإنسان وابن وطنه، أو بينه وحكومته، والتي عليها تبنى حالات الهيئة الاجتماعية والنسبة السياسية، ولا يضعون حدّاً فاصلاً بين هذين المبدأين، الممتازين طبعاً وديانة، فقد وجب وضع حاجز بين الرياسة؛ أي السلطة الروحية، والسياسة؛ أي السلطة المدنية؛ وذلك لأنّ الرياسة تتعلّق، ذاتاً وطبعاً، بأمور داخلية ثابتة لا تتغير بتغيُّر الأزمان والأحوال، بخلاف السياسة؛ فإنها تتعلق بأمور خارجية غير ثابتة، وقابلة للتغيّر والإصلاح، بحسب المكان والزمان والأحوال، لذلك كان المزج بين هاتين السلطتين، الممتازتين طبعاً، والمتضادتين في متعلقاتهما وموضوعهما، من شأنه أن يُوقع خلافاً بيّناً، وضرراً واضحاً في الأحكام والأديان، حتى لا نبالغ إذا قلنا إنه يستحيل معه وجود التمدن وحياته ونموه. وكلما كان الفاصل أمتن تكون الراحة والنجاح أعظم. ولا ريب أن هذا الفصل هو مما يجب أن يسرّ أصحاب الرياسة أيضاً الذين دخلوا وظائفهم من الأبواب، لأنه يرفع عنهم أثقالاً زمنية كثيرة ويريحهم من تقريعات ضمائرهم الناتجة من تغافلهم عن الواجبات التي أفرزوا ذاتهم ونذروا حياتهم لها”.
ولعل أهمّ ما قصده بطرس البستاني هو إبعاد رجال الدين عن العمل في السياسة؛ فالدين ثابت، أما السياسة "فإنّها تتعلّق بأمور خارجية غير ثابتة، وقابلة للتغيّر والإصلاح بحسب المكان والزمان والأحوال" على حدّ تعبيره. وهي ليست كفراً، ولا دعوة إلى كفر؛ بل هي إطار يفصل بين السياسيين وعملهم المتغير، وعلماء (رجال الدين) وعملهم في النصوص الثابتة.
وتابع هذه الكتابات لفترة طويلة من الزمن في عدد من الصحف التي أصدرها. ففي هذا المقال في جريدة "الجنة" بتاريخ 27 أيلول 1871 يدعو الى الابتعاد عن التناحر الطائفي في بيروت وفي عموم سوريا:
"انه طالما نبّهنا الأفكار في هذه المدينة وغيرها الى وجوب تجنب كل ما من شأنه إلقاء الفتن بين الاهلين وهو معلوم ان أهالي سورية مع اختلاف طوائفهم المذهبية رعايا دولة واحدة لا تريد أن تنظر اليهم الا بعين المساواة وترغب في معاملتهم بحسب النظامات العمومية التي قررتها لجميع رعاياها مع قطع النظر عن مذهبهم وعن جنسيتهم، ولذلك كان من واجباتنا السير في السبيل الذي يرضي سياستنا بالاقتصار عن ارتكاب اعمال لا توافق روح أهل هذا العصر وتحملهم على الحكم بأننا لا نزال من أهل الأعصر القديمة الذين كانت التعصبات الطائفية والمذهبية تعمي أبصارهم. وما نقوله لجهة سوريا اجمالاً نخصص بها بيروت لأنه قد كثرت فيها الوسائط التي تحمّل أهاليها معرفة فوائد الاتحاد الوطني والميل عن سبيل التعصبات الباطلة وأن يعرفوا اننا ابناء وطن واحد ومن واجباتنا المحاماة عن شرف الوطن وعن المصالح العمومية ضاربين صفحاً عن التحزبات المذهبية التي طالما اتتنا ببلايا كثيرة، ويهمّنا أن نقول ان كثيرين يتحزبون للمتخاصمين بدون أن يعلموا سبب اختلافهم، ومصدر هذا التحزب هو الغرض الديني فقط وليس ملاحظة العدل والحق، فلا يخفى ما في ذلك من الضرر وعدم الموافقة. وليس فقط ذلك، ولكن كثيراً ما يحوّلون الألعاب والملاهي وأسباب الحظ والانشراح الى أسباب النزاع والخصام. فهذه الحالة ليست حالة من يروم الصعود على سلّم التقدم والنجاح، فالمأمول ان الذين في يدهم زمام الارشاد الديني والسياسة والاعيان يصرفون همتهم المعتادة في استئصال أسباب هذه المضرات من سوريا وعلى الخصوص من بيروت، ويفرغون مساعيهم في سبيل ترقية أسباب الراحة والالفة بين الأهلين وفاقاً لروح هذا العصر".
برغم كل هذه الدعوات، كان معظم سياسيي البلاد يسايرون الوضع القائم وينخرطون في المنظومات الطائفية والمذهبية ويشتركون في حملات التجييش الطائفي والتجهيل الشعبي ومسايرة رجال الدين لكسب الأصوات والتأييد، فجاء أنطون سعادة (1904 – 1949) ليثبت هذه التوجه، فضمّن مبادئ حزبه الاصلاحية ثلاثة تختص بهذا التوجه، حتى لا يبقى عرضة للمسايرة والمساومات والتقلبات السياسية، وهذه المبادئ هي:
"المبدأ الأول: فصل الدين عن الدولة.
المبدأ الثاني: منع رجال الدين من التدخل في شؤون السياسة والقضاء القوميين.
المبدأ الثالث: إزالة الحواجز بين مختلف الطوائف والمذاهب."
ختاماً، لا يمكن مقاربة مسائل عملية في هذا المضمار، مثل الزواج المدني، دون أن يكون هذا التوجه العام المعبر عنه في هذه المبادئ الثلاث، واضحاً وشاملاً وجذرياً عند أصحاب الطرح، حتى لو كانت المطالب مرحلية وجزئية. بدون ذلك نكون غارقين وسط حفلة تكاذب جديدة يقودها أصحاب المصالح الطائفية والمذهبية في كل الأطراف الذين لا مصلحة لهم بالعبور الى الدولة المدنية الحديثة التي تحدث عنها كل رواد النهضة من الكواكبي الى سعادة.