سياسةمحليات لبنانية

رزق الله على الفساد… السعيد !..

 

حيّان سليم حيدر

ذهبت من التخرّج إلى العمل مع دار الهندسة في الخليج العربي (1972) فإلى مجال الإنماء في لبنان (1974).  ومع نزوحنا إتّقاءً من أهوال حرب لبنان إلى بلاد العُرْبِ (أوطان) إلى عَمّان الأهل الأنسباء، أصحاب الشمايل الأصيلة، إلتقيت الراحل الدكتور كمال الشاعر صاحب الدار الهندسية المميزة الذي بادر إلى تسليمي مشروع لشركته العالمية، في اليمن، الشمالي يومذاك (1976).
إستُقْبِلت في مطار صنعاء وتسلّمت مقاليد إدارة دراسة إمكانية إنشاء ثمانية طرق رئيسية لربط الطبيعة العنيدة بالجبال الصعيدة بالوجوه السعيدة.  وبدأ العمل المكتبي والميداني معًا والأهمّ العلاقات مع الوزارات والإدارات والجهات العامة لإنجاز المهمّة.
وكان أن طلبنا من وزارة الأشغال العامة تزويدنا بصور جويّة للبلاد وخاصة لمواقع العمل، والأمر يخضع، فيما يخضع إليه، لموافقة السلطات العسكرية والأمنية.  وباشرنا العمل بالترحال الميداني فيما بين المحافظات والمسؤولين عنها وعنا إلخ…   ومع تعاقب المهام، طال إنتظار الخرائط والصوَر المطلوبة، فما كان من تكرار الطلب إلّا إستمهال بعد آخر..
وفي النهاية، ولدى طلبي مقابلة الوزير لشرح الوضع، تمّ تحديد موعد لنا في الساعة العاشرة والنصف من ليل يوم ما، نعم.. في العاشرة والنصف ليلًا.  فذهبنا أنا ومهندس بريطاني، إختصاص مياه، من الشركة وموظف إداري وقابلنا الوزير شارحين له أنّ التأخير في تسليم المطلوب بات يتسبّب بتأخير كلّ المشروع وما يلحق.  ومع غضبه من الحال أرسل إلى جميع المسؤولين في الوزارة ليحضروا فورًا في آخر هذا الليل واستضافنا لكوب شاي ريثما يحضروا وفي الآخر حصل اللقاء – المواجهة.  أبقى الوزير الموظفين وقوفًا وصاح بهم بما معناه: "مش عيْب عليكم أن يأتي إلينا مهندسون وخبراء أجانب ليساعدوا بلدكم على التقدّم وأنتم هاملون متقاعسون عن تلبية أبسط متطلبات العمل إلخ…؟  هذا إنذار لكم جميعًا ومعكم 48 ساعة كي تنهوا المهمة".  ثمّ صرفهم واعتذر منّا على هذا التقصير وحرص على أن أبقى على إتّصال مباشر معه حتى إنهاء العمل.  وهكذا كان.
أثارت فضولي هذه الشخصية الفذّة بتفاعلها بالفطرة، فكان أن سألت الموظفين عن الوزير وقيل لي أن وجوده في الوزارة في ساعات الليل هو أمر يومي طبيعي، ثمّ كانت الرواية التالية.                            إنّه السيد عبد الله الكُرْشُمي، رئيس وزراء لحكومة سابقة، ولاحظ أنّه لم يتكبّر على العودة إلى منصب وزير بعدها في حكومة يرأسها غيره من مبدأ أن "الشغل الوطني مشْ عيب".                             ثمّ رووا لي حادثة طريفة عنه في مكافحة الفساد، بيت قصيد هذه المقالة.
كان الكُرشُمي رئيسًا للوزراء إذن ولدى تدقيقه في مصاريف الدولة تبيّن له يومذاك أن مصروف القصر الجمهوري عالي، فتعمّق في التدقيق ليتبيّن له أنّ هناك فواتير متكرّرة وكبيرة في شراء مادة الحرّ لمطبخ القصر.  وعلى الرغم من معرفته ميل الشعب لإستحباب زائد الحرّ في الأكل، إلّا أن المصاريف الكبيرة شَخَصَت مبالغًا فيها.  وبكلّ بساطة، كان أن أمر مدير مكتبه بالنزول إلى الأسواق وشراء، من مال السراي، شوالات من الحرّ وأمر أيضًا بوضعها في مكتبه الحكومي الخاص.  ثمّ أصدر مذكرة إدارية رسمية مفادها: كلّما إحتاج القصر إلى مادة الحرّ فليزوّده بها مكتب رئيس الوزراء من هنا وبحدود المطلوب في كلّ مناسبة.                                                       وبهذا، أظنّ أنّه قد إبتدع حلًّا بسيطًا يتجنّب من خلاله الدخول في الجدل الشائع عن ماهية الفساد وأسبابه والمتسبّب به.  وهكذا سارت الأمور.
ومن وحي وضعنا المُعاش، أرى أنّه قد فاتني الإستفسار يومذاك عن نوع الحرّ، فهل هو الأحمر منه فقط، أم أنّه كان يشمل الأخضر… واليابس أيضًا ؟
وبالعودة إلى بلادنا الحبيب، فالحمد لله على نعمة إنعدام شغف قاطني قصور لبنان من الحرّ الأحمر.. وإن كان هذا لا يشمل أيّ قصور في حبّهم للأخضر واليابس، وأنتم أعلم !
الشعب يريد كُرْشُميًّا لإطفاء حرّ لبنان.
ونختم في أيّام اللهيب هذه بالقول: رزق الله على الفساد… "السعيد" … في يَمَنِهِ !
وحَرْحَرَةٌ مباركة.
بيروت، في الأول من آب 2020م

 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى