سياسةمحليات لبنانية

حكاية حي التعمير في النبطية والذاكرة الجماعية

 


تحقيق طارق مزرعاني -الحوارنيوز
التقيته في سوق النبطية .رجل طويل القامة مستقيم المشية رغم تجاوزه الثمانين من العمر وهوالحاج قاسم قديح(أبو رشاد)المشهور بتأدية دور الشمر في مسرح عاشوراء لسنوات طويلة ،وهو مازال يُمارس مهنة "التنجيد " التي ورثها عن أبيه حتّى اليوم ،ووجدت لديه كنزاً من المعلومات التاريخية والذكريات عن النبطية وخاصةً أنّه من أوائل المنتسبين الى منظمة الحزب الشيوعي اللبناني في النبطية ،وذلك عن طريق المرحومين عادل صبّاح وقاسم صبّاغ.
سرد لي حكاية نشوء حي التعمير في النبطية فقال :"بعدما بنت مصلحة التعمير حوالي ٤٥بيتاً على أرض لآل الصبّاح استملكتها عن طريق المحاكم بعدما اعترض أصحابها على تسعير المتر المربع  ب٢٥قرشاً، وكان الهدف إيواء متضرّري زلزال ١٩٥٦،ولكن بقيت هذه البيوت مدّة طويلة ولم تُسلّم لمستحقيها ولا استُكمل بناؤها ،وكان  في النبطية عشرات العائلات التي لاتملك منزلاً ولا تستطيع إستئجار منزلٍ  ،فاقترحت على المرحوم عادل الصبّاح أن نوزّع هذه المنازل على الفقراء، فتبنّى الفكرة وقال لي يجب أن نستشير الشيخ(ويقصد الشيخ محمد تقي صادق إمام البلدة في ذلك الحين). وقد وافق الشيخ على الفكرة ولكن استمهلنا لعرضها على البيك(احمد الاسعد)والذي كانت تربطه به علاقة قوية، ولما عرض الفكرة على البيك رفضها بدايةً وقال له : " بكرا بيحبسوهن وبصير بدّي إعمل واسطات لحتى طلّعهن"، ولكنّه لمّا وجد إصراراً من الشيخ قال له أمهلني  لكي أدبّر الأمر في بيروت وبعدها جاء ردّه:"فليقوموا بذلك بسرعة شرط أن يكون الأشخاص من متضرّري الزلزال أو من الفقراء المُعدمين ".وهذا ما حصل فعلاً  فاجتمعنا ليلاً في منزل المرحوم قاسم صبّاغ أنا وحبيب درويش ومحمد فقيه وعلي سلّوم وبهاء الدين أبو خدود وآخرون وقمنا بتوزيع المهام وسلّمنا البيوت لحوالي ٥٢عائلة ،وقلنا لهم"اللي ما بيقدر يحمي بيتو بنجيب غيرو"،وأنّهم يجب أن يدافعوا عن بيوتهم حتى الإستشهاد، فقمنا بخلع الأبواب ودخلنا البيوت  ، وفي اليوم التالي قامت قيامة البعض وقالوا إنّ الشيوعيين احتلّوا بيوت التعمير.
وفي الحقيقة أنّ الأغلبية لم يكونوا شيوعيين وإنّما من الفقراء ، وكانت التعليمات من الحزب ألا نرد على أي إستفزاز.ثمّ جاء  الدرك وسطّروا محاضر بقيت حبراً على ورق نظراً للتغطية من أحمد الأسعد الذي كان وقتها على علاقة جيّدة مع الشيوعيين بُعَيْد ثورة  ١٩٥٨،وأذكرأنه حقّق معي في منزلي رقيب أول وهو رئيس المخفر وكان شاباً لطيفاً يدعى ابورياض من شحيم وكنت سابقاً قد نجّدت له فرشة. وهكذا تمّت الأمور كما خطّطنا لها ،وبعد مدّة شكّلنا وفداً  كبيراً وذهبنا الى دار الطيبة شاكرين البيك على دعمنا…"
وقد أكّد هذه الرواية الدكتور في الجامعة اللبنانية علي أبو خدود، وهو احد سكان الحي منذ البداية ،وكان والده بهاء الدين أبو خدود من مؤسّسي منظمة الحزب الشيوعي في النبطية وشارك في لجنة حي التعمير، وهو بعد أن كان من الملّاكين باع أرضه لمساعدة الفقراء، كما حصل فيما بعد مع عادل الصبّاح، فلقد كانت هذه صفات مناضلي ذلك الزمن ،ولذلك قرّر الحزب  إعطاءه بيتاً في التعمير .
وعن الحي يقول الدكتور علي إنّه حي جميل ومريح وقد تأمّنت فيه البنية التحتية بمساعدة البلديات المتعاقبة والأحزاب والأهالي ،ونما وتطوّر وبعد أن كانت البيوت صغيرة وأكبرها يتألّف من غرفتين ومطبخ وحمّام ولا تتجاوز مساحته المئة متر مربع ، وكانت بلا أرضيّات وجدرانها مطلية فوق الحجارة بدون ورقة فقام الساكنون باستكمال صب أرضياتها وتمت الإضافات المتتالية ،خاصةً  خلال فترة الحرب وغياب الدولة وأغلبها أصبح طابقين أو أكثر ولم يبقَ  سوى بيتين أو ثلاثة بطابق واحد ، وبقيت العلاقات بين السكان ممتازة الى أن طُرِح منذ بضع سنوات موضوع التمليك ،بعدما أُلغيت مصلحة التعمير وتحوّلت  الى "الموّسّسة العامة للإسكان "واستطاع الكثيرون الحصول على سندات تمليك ،فيما بقي الآخرون وأنا منهم بلا سندات ملكية بعدما رفعت الدولة الأسعار من مبلغ زهيد من بضعة  ملايين ليرة للبيت الواحد  الى ما يُعادل حوالي ثلاثين او اربعين الف دولار  ،ولكنّهم أقرّوا أنّ البيت لساكنه ،  أمّا عن مساحات قطع الأرض فتتراوح بين ٢٠٠الى٤٠٠متر مربع من ضمنها مساحة البيت .
ويقول د علي أنّ حي التعمير كان منطلقاً لأغلب التظاهرات الشعبية والمطلبية ، وكان معقلاً لليسار وذلك حتى ثمانينات القرن العشرين حيث بدأت تظهر وتطغى  الاتجاهات المذهبية .
والناظر الى  هذا الحي يجد فيه حميمية وجمالية  خاصة كمعظم الأحياء الشعبية ،وهو رغم العشوائية في البناء يبقى أجمل وأكثر إنسانية من الأحياء الجديدة التي أصبحت غابة من الباطون ومن المباني العالية التي تفتقر الى أدنى شروط تنظيم المدن والى مراعاة الناحية الجمالية والإنسانية ،فنحن نجد في هذا الحي تطبيق العمارة العضوية والعفوية والنمو حسب الحاجة، وكذلك نجد امام كل بيت حديقة جميلة وإن كانت صغيرة وهذا الحي قابل للتطوير والتحسين إذا اهتمّت الجهات المعنية بذلك….
                                                  

*الصور بالتتابع:
-حي التعمير سنة١٩٥٨
-حي التعمير سنة١٩٦٣
-حي التعمير سنة١٩٨٩
-صورة يظهر فيها قاسم قديح ومعه على الأرجح حبيب سلوم وحبيب طحطح خلال ذهابهم مع وفد لشكر احمد الاسعد في الطيبة.
-صورة للوفد مع احمد الاسعد.
-الحاج  قاسم  قديح في منزله في حي التعمير .
-أنا والدكتور علي بو خدود في منزله.
-بقية الصور لبيوت وشوارع وحدائق الحي…

*المصادر والمراجع:
-كتاب الصديق العزيز جامع  تاريخ النبطية وجبل عامل الاستاذ علي مزرعاني(النبطية في الذاكرة).
-موقع النبطية حاضرة جبل عامل.
-محفوظات الحاج قاسم  قديح.
-مقابلة خاصة مع الحاج قاسم  قديح والدكتور علي بو خدو
د.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى