بيئة الأعمال في لبنان: قراءة تحليلية على ضوء برنامج B-Ready (سعيد عيسى)

بقلم د. سعيد عيسى – الحوارنيوز
في عام 2024، أطلق البنك الدولي برنامجًا جديدًا يحمل اسم (B-READY ) ليكون إطارًا عالميًا جديدًا لتقييم بيئة الأعمال، وذلك بعد إلغاء مؤشّر “سهولة ممارسة الأعمال Doing Business)” ). يهدف هذا البرنامج إلى قياس مدى “جاهزية” اقتصاد أي دولة لاحتضان الشركات وتوفير الشروط التنظيمية والعملية التي تُمكّن القطاع الخاص من النمو والاستدامة.
يرتكز برنامج B-READY على تحليل بيئة الأعمال من خلال ثلاثة أبعاد رئيسية:
– الإطار التنظيمي: (Regulatory Framework ) ويشمل القوانين والأنظمة التي تحكم عمل الشركات.
– الخدمات العامة: Public Services) ) مدى توفر وجودة الخدمات المقدّمة للشركات مثل الكهرباء والمياه وغيرها.
– كفاءة التطبيق: Efficiency in Practice) ) كيفية تنفيذ القوانين والخدمات على أرض الواقع.
ويغطي البرنامج عشرة محاور تمثل دورة حياة الشركة، من التأسيس إلى الإغلاق أو إعادة الهيكلة، بهدف تقديم صورة دقيقة عن بيئة الأعمال الفعلية، وليس فقط القوانين على الورق.
في هذا المقال، سنستخدم منهجية B-READY لتحليل واقع بيئة الأعمال في لبنان، من خلال التوقّف عند كل محور من المحاور العشرة التي يقترحها البرنامج، ويمكن أن ندمج محورين في محور واحد لتقاربهما مع بعضهما البعض، مسلّطين الضوء على مكامن الخلل، والفرص الممكنة للإصلاح، والتحديات البنيوية التي تواجه القطاع الخاص.
أولا: تسجيل الشركات واختيار الموقع
رغم وجود قوانين تنظّم تأسيس الشركات في لبنان، فإن الواقع الفعلي يطرح صورة مختلفة. الإجراءات الإدارية معقّدة، تتطلب موافقات متعدّدة من جهات رسمية مختلفة، وغالبًا ما تصطدم بممارسات بيروقراطية تجعل تأسيس شركة جديدة مهمّة مرهقة وتستغرق وقتًا طويلا. يضاف إلى ذلك غياب الشفافية في عمليات الترخيص، وغياب نظام رقمي موحّد يمكن من خلاله متابعة الطلبات إلكترونيا. هذا الواقع يشكل عائقًا أمام رواد الأعمال والمستثمرين الجدد، ويدفع بالكثيرين إلى العمل في الاقتصاد غير الرسمي او غير المهيكل.
ثانيا: الخدمات الأساسية: الكهرباء والمياه
أحد أكثر التحديات الحادة التي تواجه الأعمال في لبنان هو انعدام الاستقرار في الخدمات العامة، ولا سيما الكهرباء. الشركات تعتمد بشكل شبه كامل على المولدات الخاصة، ما يرفع من كلفة الإنتاج ويؤثر على الجودة والاستمرارية. أما على صعيد المياه، فإن الإمدادات غير منتظمة، والبنية التحتية متهالكة. وضعف الدولة في توفير الخدمات الأساسية بمستوى مقبول إلى حدٍّ ما يجعل من بيئة الأعمال غير قابلة للتنبؤ بما ينتظرها ويعرقل التخطيط والاستثمار لديها.
ثالثا: الخدمات المالية والحصول على التمويل
الأزمة المالية التي بدأت في أواخر سنة 2019 تسببت في شبه انهيار للنظام المصرفي اللبناني من حجز الودائع، إلى فقدان الثقة، وصولا إلى توقف الإقراض التجاري، جعلت من الحصول على التمويل أمرًا شبه مستحيل، خصوصًا للشركات الصغيرة والمتوسطة. وهذا الشحّ في السيولة وانعدام آليات تمويل فاعلة يعوّقان الابتكار، والتوسع، وحتى الصمود في وجه الأزمات. كما أن غياب سوق مالية نشطة ومؤسسات تمويل بديلة يضاعف من هشاشة البيئة المالية للأعمال.
رابعا: التجارة الدولية
لطالما عانى لبنان من ضعف في البنية التحتية المتعلقة بالتجارة الدولية، سواء في المرافئ أو المعابر الحدودية أو الخدمات اللوجستية. ومع انهيار الخدمات العامة والفساد المستشري باتت عمليات التصدير والاستيراد مرهقة، ومكلفة، وغير تنافسية. كما أن تدني مستوى الثقة في الشفافية الجمركية وانعدام المعايير الموحّدة يشكلان عائقًا أمام اندماج الشركات اللبنانية في الأسواق الإقليمية والعالمية.
خامسا: النظام الضريبي
النظام الضريبي في لبنان يتميز بالتعقيد، واللاعدالة، وغياب الحوافز الاستثمارية الفعّالة، والشركات النظامية تُثقل بالضرائب والرسوم، بينما يزدهر الاقتصاد غير الرسمي دون أي رقابة حقيقية. كما أنّ التحصيل الضريبي يعتمد على أدوات غير رقمية (Non digital tools)، ما يسمح بالتحايل والفساد ويضعف قدرة الدولة على التخطيط المالي الفعال. كما أنّ ضعف الثقة بالنظام الضريبي ينعكس سلبًا على الالتزام الضريبي الطوعي ويزيد من تشوّهات الاقتصاد.
سادسا: حل النزاعات التجارية
يُعدّ النظام القضائي في لبنان من أبطأ الأنظمة في المنطقة، إضافة إلى نقصٍ كبير في الكوادر القضائية المتخصّصة في النزاعات التجارية. فبطء البتّ في القضايا، وتعدّد درجات التقاضي، كلّها عوامل تجعل من حل النزاعات مهمة مكلفة وزمنية قد تمتد لسنوات. هذا الواقع يدفع العديد من المستثمرين لتجنب اللجوء إلى المحاكم وتفضيل التسويات غير الرسمية التي غالبًا ما تكون غير عادلة أو غير مستدامة.
سابعا: المنافسة في السوق
رغم وجود قانون جديد لحماية المنافسة، إلا أن تطبيقه لا يزال في بداياته. فالأسواق في لبنان تسيطر عليها مجموعات احتكارية في قطاعات حيوية (مثل الاتصالات، والمحروقات، والمواد الغذائية وغيرها…)، وهذه السيطرة، تعيق دخول لاعبين جدد، وتمنع تطور بيئة تنافسية عادلة. في ظلّ غياب الشفافية، والتدخلات السياسية، وعدم وجود هيئة ناظمة مستقلة وفاعلة يعمّق مشكلات الاحتكار ويضعف من دينامية السوق.
ثامنا: إعسار الأعمال وإعادة الهيكلة
الإطار القانوني الحالي لإفلاس الشركات لا يوفر إجراءات واضحة وسريعة لإعادة الهيكلة. وبدلًا من إنقاذ الشركات المتعثرة، غالبًا ما يتم تصفيتها ببطء ما يكبد الدائنين والموظفين خسائر كبيرة. كما أن ثقافة إعادة الهيكلة لا تزال ضعيفة في الأوساط القضائية والإدارية، ما يحرم الاقتصاد من إمكانية إنعاش الشركات المتعثرة وخلق فرص عمل من جديد.
خلاصة: نحو بيئة أعمال عادلة ومنفتحة
بناء على ما تقدّم، إنّ بيئة الأعمال في لبنان ليست فقط ضحية الأزمات المتراكمة، بل هي نتاج نظام اقتصادي غير عادل، هشّ، ولا يخضع للمساءلة. إن معالجة هذه التحديات لا تحتاج فقط إلى إصلاحات قانونية أو تقنية، بل تتطلب إرادة سياسية فعلية لبناء دولة قادرة على تطبيق القانون، تقديم الخدمات بفعالية، ودعم القطاع الخاص كمحرّك للنمو وليس كخصم للدولة.
فلبنان يمتلك قدرات بشرية وريادية كبيرة، لكن هذه القدرات تبقى معطّلة في ظل بيئة تنظيمية وخدمية غير ملائمة. الإصلاح يبدأ من بناء الثقة، وخلق إطار قانوني واضح وعادل، وتحديث البنى التحتية المادية والإدارية، وإرساء ثقافة اقتصادية قائمة على الشفافية والعدالة والتنافسية. حينها فقط يمكن للبنان أن يتحول من اقتصاد هشّ إلى اقتصاد منتج، عادل ومستقر.