دولياتسياسة

المدن المنسيّة: عن الدور التركي المستعاد ومحطات تاريخية

 


الدكتور نسيم الخوري

كان المنظر لافتاُ بل صادماً في لبنان الحافل بأزماته الخانقة، عندما رفعت أعلام الدولة التركيّة في المظاهرات الحريرية اللبنانيّة الكيدية الأخيرة في العاصمة بيروت، لتذكير اللبنانيين بإمبراطورية التوسّع وبعثرة الشعوب والإبادات، في الوقت الذي يتابع العالم اليوم المشاهد الدموية المتجددة في سوريا من دعم للإرهابيين والغوص في حروب يشنّها جيش أردوغان على شمالي سوريا تتظهّر عبرها أفكار مقارعة روسيّا وعزل سوريا.
لا يحتمل بالطبع تشريع أبواب تركيا للمهاجرين والجماعات التكفيرية نحوً القارة الأوروبيّة مجدّداً عبر النافذة اليونانية، وكأنّ خاتم ضعضعة إستقرار أوروبا العجوز ووحدتها المأزومة من مهام التركي منذ أن أطلقت أميركا صفة الشيخوخة على القارة المربكة بعد خروج/هروب بريطانيا منها. يمكن التكهّن الفعلي بانهيارات أحمال تركيا أردوغان المشحونة بالأطماع خصوصاً بعد إيقاعات توقيع الولايات المتّحدة الأميركية المفاجيء لإتّفاق سلام مع حركة طالبان الإخوانيّة في أفغانستان.
ليست هي المرّة الأولى التي تجد فيها تركيا نفسها، مشتّتة ومتفاجئة ومبعثرة بين مجموعات اللاعبين  في ملاعب القوى العظمى والدول الإقليمية الكثيرة، ولربّما لا يصدّق الرئيس أردوغان الرياضي الخارج أساساً من ملاعب كرة القدم، أنّ مستقبل الدول يصعب ضمانتها بتقديس الماضي وتزويجه الدائم مع المستقبل بدلاً من تنقيته دون الإرتماء في أكثر من موقدٍ عربي وعالمي كان آخرها الأزمة الليبية الملتهبة التي خرج منها مستقيلاً الموفد الدولي للأمم المتّحدة الصديق غسّان سلامة لتضافر التعقيدات الإقليمية والدولية والنفطية، ولو أنّ أردوغان بان ناشطاً مؤخّراً في صرخاته وحملاته الإعلامية التي تدأب على تشويه صورة الإمارات وغيرها من الدول. قد يستحيل الإمساك بتلك الأعداد من الحبال المشدودة بين رياح الأرض، بما لا يمكنه تغطية تلك العدائية الهائلة التي تتلبّس تركيا في النظرة إلى مستقبلها في ضوء معاهدتي سيفر ولوزان المرفوضتين إذ لا بدّ من العودة إلى ما قبلهما في الذهن التركي .
ما المقصود؟
قامت الدولة العثمانية في 10 آب 1920، بتوقيع معاهدة "سيفر" التي فسرتها حكومة أنقرة على أنها معاهدة "مُذلة" لا يمكن القبول بها. ولم تحصل هذه الاتفاقية على اعتراف دولي سوى من اليونان التي حوّلتها تركيا اليوم معقلاً ومحطة للعدائية مع أوروبا. ونتيجة لاستمرار حرب التحرير التركية وتحقيقها انتصارات ملموسة، حظيت حكومة أنقرة بالاعتراف الدولي الذي أهّلها لتمثيل تركيا في مؤتمر توقيع معاهدة لوزان للسلام.
صحيح أنّ أردوغان مسكون برفض أية فكرة أو صفة إيجابية لتلك الإتفاقية التي وقعت في  لوزان عام في 24 تموز 1923 بين تركيا من قبل حكومة أنقرة التي كانت منافسة لحكومة إسطنبول من جهةٍ وبريطانيا وفرنسا وإيطاليا واليابان واليونان ورومانيا والبرتغال وبلغاريا وبلجيكا ويوغسلافيا من جهةٍ أخرى، وصحيح أنّ رفضه هذا مسنود إلى كون تلك الإتفاقية ستنتهي عام 2023؛ لكنّ الأصحّ أن يكون لهذا الهاجس الإنتظاري الثقيل بأعبائه المنتظرة، هو الأكبر الذي منه يستطيع الباحث تفكيك سياسة أردوغان المتعدّدة الأبواب المختلفة الأحجام والألوان، بإعلانه ذلك العام ال2023 قبل حلوله عام المراهنة على التحوّلات السياسية في رسم مستقبل لتركيا مع أنّ ملامح التعثّر والتحدّيات المتنوعة تتمظهر بإنتظار حلول هذا العام.
شرحت الأستاذة الجامعية الدكتورة ريم عرنوق مطوّلاً، ما أسمته ب "المدن المنسيّة" بما تتضمّنه هذه التسمية الحزينة من إنزياحات الشعوب والألام إلى الذكريات الحيّة عبر الأجيال والتي يتأهّب بهدف إحيائها. وتساءلت: لماذا يوجد في ريفي حلب وإدلب مدن منسية؟ ولماذا هي منسية؟ ومنذ متى هي منسية؟ وكيف أصبحت منسية؟
أتعرفون أن في سوريا 800 مدينة وقرية في حلب وادلب كانت مزدهرة وعامرة بالسكان والحياة والزراعة والتجارة والحرف، انقرضت وبشكل تدريجي بين القرنين 10  و20 للميلاد؟
تمّ تهجير مئات آلاف السكان، وقطعت عشرات الآلاف من أشجار الزيتون، و 2000 كنيسة وكاتدرائية أشهرها كاتدرائية القديس سمعان العمودي، إلى  تاريخ حافل بالنشاط الحضاري والثقافي والمؤلفات والترجمات التي تمّ محوها وانقرضت.
كيف ولماذا؟
حين عرفت الجواب اكتشفت أن تلك المدن المنسية ليست مقتصرة على سوريا فحسب، فشمال جبال طوروس واليونان يخفلان بالمدن المنسية، ثم أن المناطق المحاذية لدولة أرمينيا الحالية والواقعة في تركيا والمقدرة مساحتها بضعفي مساحة أرمينيا مليئة أيضاً بالمدن المنسية!!! ولذلك ديار بكر وعينتاب وكل كليكيا خالية من سكانها الأصليين السريان الذي عمروها وعاشوا بها لآلاف السنين قبل عام 1923.

ما هذا العصف الذي دمّر بطريقه كل معالم هذه الحضارة الإنسانية؟ بل ما هو العامل المشترك بين شمال جبال طوروس وأرمينيا واليونان وسوريا؟
الجواب: مقيم في التاريخ التركي مع أنّ معظم الشعوب والدول تعرّضت للحروب، لكنّ الحروب لا تعني بالضرورة الإبادة الجماعية
إنّها مفارقات اليقظات الدينية والتاريخية الدموية في العالم العربي المعاصر.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى