
الحوارنيوز – صحف
تحت هذا العنوان كتب حبيب فياض في صحيفة الأخبار:
أنتجت الثورة الإسلامية في إيران جمهوريةً قائمة على باقة من المحدّدات العميقة، من ضمنها مبدئيّة العداء لإسرائيل. ذلك يعني أنّ هذا العداء، وهو ما يعنينا في هذا المقام، يتخطّى كونه عرَضاً سياسياً لصيقاً بالدولة الإيرانية، أو كونه مجرّد شعار من نتاجات النظام ومقولاته، إلى كونه من القيم المؤسِّسة للجمهورية، على غرار إسلامية النظام، المشروعية الشعبية، الاستقلالية، وعدم التبعيّة للغرب والشرق.
تبعاً لذلك، دائماً ما كان يطرح سؤال تشكيكي حول «المفارقة» بين منسوب عداء إيران المرتفع لإسرائيل من جهة، وإحجامها عن المواجهة المباشرة معها من جهة ثانية، إلى أن حانت لحظة الاحتدام الراهنة والتي تقوم على تموضع إيران الدفاعي مقابل اندفاع إسرائيل العدواني.
وهي معادلة كانت على الدوام مأخوذة إيرانياً في الحسبان كشرط لازم لاكتمال عناصر المواجهة والذهاب بها إلى مدياتها البعيدة.
على هذا، لم تشهد المنطقة من قبْل لحظةً أشدّ مصيرية مما هي فيه، بوصفها لحظة انفجار تاريخي تمثّلت بالعدوان الإسرائيلي على إيران. «فجائية» اللحظة هذه وخروجها عن المتوقّع والمألوف تستبطن في الوقت نفسه ما يوازيها من «ضبابية» في تحديد المآلات وارتباطها بمسارات عدة وعواقب غير مألوفة.
غير أنّ الواضح، إلى الآن، هو أنّ المواجهة المفتوحة بين تل أبيب وطهران، سواء من حيث مقدّماتها أو نتائجها، ستنتهي بوضع الإقليم أمام تحوّلات عميقة تتجاوز الإخلال بالمعادلات والتوازنات بين أطرافها المتنازعة إلى إعادة خلق تكتلات جديدة، وإرساء قواعد مختلفة في إدارة الصراعات والعلاقات بين دول الإقليم.
تتبدّى المواجهة بين كيان العدو وإيران عبر إدراجها في خانة العداء الوجودي رغم اختلاف الخلفيات والأبعاد لدى كل منهما.
فإذا كانت الجمهورية الإسلامية تنطلق في رؤيتها العدائية لإسرائيل من محدّدات نظرية أيديولوجية تتخطّى حدّ التعارض إلى التناقض، فإنّ إسرائيل، بفعلها العدواني الأخير، لا تسقط من مقاصدها الاحتمالات الإلغائية لنظام الجمهورية الإسلامية وإسقاطه؛ حيث من الواضح إلى الآن أنّ المواجهة المشهودة ليست منضبطة تحت سقف أجندة الأهداف المعلنة أو المحدّدة، بل متوقّفة على الانفلات والتدحرج، وعلى القدرة على الفعل وإلحاق الضرر، وبالتالي هي مواجهة ذات أبعاد وجودية من دون أن يعني ذلك بالضرورة انتهاء الحرب القائمة بين الجانبين إلى قدرة أحدهما على إلغاء وجود الآخر.
رصيد إيران التسليحي في مواجهة إسرائيل يأتي في الدرجة الثانية ضمن استعداداتها التي عملت عليها لعقود، هذا في حين أنّ رصيدها العسكري الأصلي تمّت مراكمته على مدى عقود طويلة على خلفية المواجهة مع أميركا أوّلاً
ولعلّ أخطر ما في المشهد أنّ إسرائيل، بعدوانها الراهن على إيران، انتقلت بالعداء الوجودي بينهما من حالة الكمون إلى حالة الفعالية، ومن الحيّز الإيديولوجي إلى الحيّز الحربي. تداعيات وجودية المواجهة تنعكس لدى الجانب الإيراني على شكل خسائر بعيداً من المخاطر ما دام النظام بمنأى عن السقوط والتغيير، بينما تنعكس لدى الجانب الإسرائيلي على شكل مخاطر إلى جانب ما تنطوي عليه من خسائر.
المخاطر التي تتهدّد إيران لا ترقى إلى الوجودية في ظل انعدام موضوعي لاحتمالات إسقاط النظام. وفي المقابل، المخاطر التي تتهدّد إسرائيل إنما تندرج في سياق وجودي باعتبار أنها غير مسبوقة ووصفة مثالية لانحلال الكيان، وتقوم على ترصيد فرط نقطوي ينتهي باهتزاز أركان الدويلة العبرية.
بمعنى أنّ قدرة النظام الإيراني على تجاوز مخاطر استهدافه في أصل وجوده سيحيل خسائره إلى أضرار «بنيوية» قابلة للترميم، في حين أنّ ما يلحق بإسرائيل في مختلف المجالات نتيجة هذه المواجهة سوف يحيل خسائرها إلى أعطاب «وجودية» تصيبها في فلسفة قيامها وهويتها وقدرتها على الثبات والاستقرار.
السياق الوجودي لحرب النقاط بين إسرائيل وإيران هو بحد ذاته ترصيد في مصلحة الأخيرة، إذ يكفي أن تصمد في وجه العدوان حتى تكون منتصرة، حتى لو كانت الكلفة هي الإضرار بالبرنامج النووي والبنى التحتية والعسكرية. بينما على الضفة الأخرى من المواجهة، يكفي أن تعيش إسرائيل تجربة غير معهودة على الجبهة الداخلية، حيث تشهد هشاشة وتآكلاً في حصانة الأمن القومي والجبهة الداخلية، حتى تكون في خانة الخاسرين.
النظام الإيراني غير قابل للسقوط من بُعد، والحديث عن إسقاط إيران لغو لا طائل منه في ظل استحالة الغزو البري. يعزّز هذا المنحى ارتداد المشهد الداخلي في إيران إلى وحدة وطنية غير مسبوقة في مواجهة العدوان.
الطبيعة الإيرانية عموماً تأبى التواطؤ مع الخارج في حال كان ذلك على حساب السيادة الوطنية والمصلحة القومية. المخاطر الخارجية التي عادة ما تستهدف البلاد، شكّلت دوماً لدى الإيرانيين عاملاً للفرز بين مَن هو وطني معارض ومَن هو عميل تابع للخارج (على سبيل المثال، منظمة «مجاهدي خلق» تحوّلت في لحظة عند غالبية مؤيّديها من الإيرانيين من منظمة معارضة وطنية إلى منظمة خائنة لمجرد اتخاذها من عراق صدام حسين مقرّاً لها).
لهذا، إسرائيل بعدوانها الأخير جعلت تحدّيات الخلافات الداخلية التي تشهدها إيران في خانةٍ تُقاربُ الصفريّة، حيث التوحّد الحزبي والالتفاف الشعبي تحت راية مواجهة العدوان يتسيّدان الموقف.
العنصر الحاسم في تحديد وجهة هذه الحرب ومآلاتها هو القدرة على التحمّل. مَن كان لديه قدرة أكبر على الصبر والبقاء في حالة الحرب لمدّة أطول، هو الأقرب إلى تحقيق النصر وبلوغ الأهداف.
فالهزيمة لمن يصرخ أوّلاً في لعبة عضّ الأصابع هذه، فيما لا يعرف بين شعوب الأرض من هم أكثر أناة وأشدّ صبراً من الإيرانيين.
أمّا ما يحكى عن تحوّل في نظريّة إسرائيل القتالية، وانتقالها من الخوض في حروب سريعة إلى القدرة على الخوض في حروب طويلة الأمد، فهو أمر لا ينطبق على المواجهة القائمة مع إيران.
هذه النظريّة تنطبق على قدرة إسرائيل على التحمّل في المجالات العسكرية والقتالية عند الحدود والأطراف، وليس على المجالات المجتمعية والمدنيّة في وسط الكيان والجبهة الداخلية.
وعليه، إذا كان معيار نجاح العدوان الإسرائيلي يكمن في قدرة تل أبيب على تدمير منشآت إيران النووية، وإذا كان هذا الأمر قريباً من الاستحالة من دون مساعدة أميركية مباشرة، فإنّ هذا كلّه يضع واشنطن عند مفترق طرق لتختار بين المغامرة في الدخول إلى الحلبة، أو القبول بمنطق الإخفاق الإسرائيلي في تحقيق أهداف العدوان.
ومهما يكن، فإنّ قدرة إيران على مواجهة أميركا من قرب (أي في المنطقة المحيطة والجوار) أكثر بمرّات بالقياس مع قدرتها على مواجهة إسرائيل من بُعد. رصيد إيران التسليحي في مواجهة إسرائيل يأتي في الدرجة الثانية ضمن استعداداتها التي عملت عليها لعقود، هذا في حين أنّ رصيدها العسكري الأصلي تمّت مراكمته على مدى عقود طويلة على خلفية المواجهة مع أميركا أوّلاً. قدرة إيران العسكرية في مواجهة إسرائيل لا تشكّل سوى 15% من قدرتها في مواجهة الوجود الأميركي في المنطقة.
ذلك يعني أن قدرة إيران على ضرب إسرائيل، والمقتصرة على المسيّرات والصواريخ البالستية البعيدة المدى، رغم نجاعتها وضخامتها، ليست معياراً في تحديد قوّة إيران العسكرية المبنيّة بالدرجة الأولى على مواجهة مع الأميركيين في المحيط والجوار، وهو ما استعدّت له إيران بشكل يتماهى بنيوياً مع وجودية نظامها منذ لحظة تأسيسه، عبر أشكال شتّى من البناءات الإستراتيجية والأساليب القتالية.
خلاصة الأمر، أنّ الإدارة الأميركية تتردّد حيال الانخراط بمواجهة مفتوحة مع الجمهورية الإسلامية، على خلفية أنّ دخولها في مثل هذه المواجهة لن يكون له أكثر من التداعيات الكمّية من جهة إلحاق الضرر بإيران؛ ولكنه في الوقت نفسه سيتيح للإيرانيين خلق مساحات حيوية لاستخدام عناصر قوّة كامنة لديهم وليست قابلة للاستخدام في مواجهة إسرائيل.
لقد تورّطت إسرائيل في تبيان عدم قدرتها على إنهاء مشروع إيران النووي، وبالتالي وضعت إيران أمام ضرورة العمل على إعادة ترميم قدراتها النووية، وإمكان تعديل عقيدتها في هذا الخصوص، والجنوح نحو التصعيد في نسبة التخصيب، ما سيضع إسرائيل في منتصف الطريق بين فعل عقيم تعجز معه عن مواجهة إيران منفردة، وخوف مستديم من الواقع النووي المتجدّد في إيران.
أزمة نتنياهو أنه يريد التربّع على عرش قادة إسرائيل التاريخيين مهما كان الثمن؛ فلامس عتبة الجنون في حربه على إيران. فقد كان نزقاً في القفز فوق المقدّمات لبلوغ النتائج، ومتهوّراً في الخروج عن المألوف لجعل أسوأ الخيارات أمام كيانه أمراً واقعاً، وبارعاً في تحويل المفكّر فيه على نحو الاستحالة إلى حقيقة، فأخذ بكيانه إلى قفزة نحو الخيال والمجهول، حيث لن يتأخّر الرأي العام الإسرائيلي عن اكتشاف أن نتنياهو يشكّل خطراً على إسرائيل أكثر من أي عدو خارجي، وإدراك حقيقة أنّ السكوت على أنشطة إيران النووية كان سيكون أفضل بكثير من الدخول في مواجهة معها.
* خبير في الشؤون الإيرانية