ثقافة

شرفةٌ…ورحيلٌ… وحسناء

المكان موغلٌ في الحيادِ
هو ليس على تقاطع طرقٍ
ليس بين ضجيج عابرينَ
ليس بين ازدحام آلياتٍ
تطلق فوضاها لتربك خواطركَ
لتمنع عنك ذكرى الأحبةِ
أو لتلهيك عن خفق الوجدان
المكان على نهايةٍ لمسارٍ ما
لدربٍ ما
لوقع أقدامٍ قليلةٍ
لمنفىً حتميٍ
ليس لك منه مفرٌ
هو ليس إقليماً نائياً
ليس في تضاريس تعتادها
ليس فيه كثيرُ شجنٍ
ولا يحويه مثلث أحزان…

المكان بضع أمتار مربعةٍ
صغيرٌ ضئيلٌ بمقياس الأحجام
إن عددته أو وصفتهُ
عز عليك أن تعطيه عنوان
هو شرفةٌ يتعثر بها ناظراك كيفما التفتا
تمتد على مساحات وجومكَ
مسافات وجدكَ
سأم وحدتكَ
مرارة غربتكَ
مع أن القوم قومكَ
وهم لك أهلٌ وخِلّان
الشرفة جزءٌ من يومياتكَ
مفردةٌ من مفرداتكَ
قل مرتاديها
كحال كتبك المتعبةِ
وبعضٍ من ضجرٍ تمحوه بخربشات
تسميها كتاباتٍ
وأنت ما أنت إلا ضائعٌ
لفظتك البحار المسجرة عارياً
وأصابك على صغر السن تيهٌ منظمٌ
وكثير هذيان…

على الشرفة القريبة دائماً
على حين غرةٍ من رتابة الأيام
تطل عليك من العدمِ المصفّى
حوريةٌ فاتنةٌ لم ترى كمثلها
بين الحِسان
تأخذ بتلابيب عقلكَ
تزيد من نبض قلبكَ
تشعل أنفاسك تنهداتٍ
تلقيك في ارتعاشٍ وتقلبٍ
كل ما فيك يهتزُّ
لكأنه يتصدع منك البنيان
فما الذي أنت أمامه فجأةً؟
أحسناءُ من الملائكة البشريينَ
أم فتنة من الجان
لا تملك لذلك إجابةً إنما
يهدأ روعك قليلاً فترى أنكَ
استحلت شيئًا آخر تجهلهُ
ولم تعد سوى ظلٍ خفيٍ
لما كان يوماً إنسان…

على الشرفة القريبةِ
تلقي الحسناء ذراعيها
وهما كحالها فاتنان
تمرر راحةً بين شعرها المسدل
فيتهاوى شعرها حِمماً على قلبكَ
تطلقها فوهةٌ من بركان
وأي بركانٍ يصليك لهباً
إن تجرأت على النظرِ
إلى ما تتلون بهِ
تلك العينان!
لو وصفت القامةَ لاستحضرتَ
ما قيل في "عود البان"
لو وصفت سحر الإطلالةِ
لنظمت شعراً بثمالةٍ
لا تسعه كل الأوراقِ
لا تكفي لوحاتهُ
كل جذوع الأشجارِ
لا الأرصفة الباردةُ
ولا صفحات الجدران
ستغدو وبك مسٌّ منها
ستتسمر على الشرفة بعدها
انفاسكَ
أفكاركَ
خواطركَ
كل ظنونكَ
بسيط أمانيكَ
وما قد ينطق به لسانك ليفضحكَ
في حلم يقظةٍ
أو ارتعاش هذيان
ستغدو أسيراً يا ولدي
مجنوناً يُشارُ إليه
بكل بنان…

من على الشرفة القريبةِ
تتأمل الحسناء الفاتنة بعض أشياءَ
وإنك لتعجب لما وقعت عليه عيناها
كيف يكون صلفاً هكذا
كيف يصمد أمامها
لا يصيبه الذوبان!
كيف للأبنية الإسمنتية ألا تتصدعَ
كيف للشجيرات المجاورة ألا تشتعلَ
كيف للأفق ألا تحمر وجنتاه عند الظهيرةِ
كيف للطيور العابرة ألا تحترق في عنان السماءِ
كيف للبحر ألا يغلي ويتبخرَ
كيف للأرض ألا يتصدع محورها
وكيف تستمر في الدوران؟
محظوظٌ أنت يا ولدي
وملعونٌ في آن
تتمنى لكنك تخشى
أن تقع عليك تلك العينان
صاحبتهما وكل ما حولك جميلان
لا تملك لنفسك زماماً
تسترق النظرَ
تكثر الالتفاتَ
تميل نحو الشرفة ومن عليها بسببٍ
وبلا سببٍ
الأمر لديك سيَّان
فكوكب الأرض مسطحٌ صغيرٌ
ليس عليه سوى تلك الرائعةِ
وأنت في الظل مترقبٌ
معلَّقٌ لخفقٍ ونبضٍ فيك يتدفقان
ما بين القلب والاوردة والشريان
الجو حارٌ جداً يتصبب عرقاً
لا تقل لي قد رحل البرد لغير رجعةٍ
فلا زلت في أوقات ضوع الزهورِ
وتباشير عودة نيسان….

على الشرفة القريبةِ
تهم الحسناء بالرجوع
فقد مرت من النهار ساعةٌ
وهي لن تبقى حتى المساء
لعلها تتيح فرصةً للقمرِ
ليعبر باستحياء
هي حتماً لن تنتظر منك "سيريناتا"
هي لا تلحظك البتةَ
هكذا تخبرك نفسكَ
ومن تكون انت لتلتفت إليك
وماذا لديك؟
أانت متيمٌ ولهان؟!!
ألقِ عنك أمانيكَ
أمشاعرك تجري وتفيضُ
لتملأ بحاراً وأنهاراً وغدران؟
دع عنك تلك الترهاتِ
فأمثالك كثرٌ يا ولدي
وهيهات تلتفت إليكَ
سيدة الحِسان
هيهات لمثلك أن يقطفَ
وردة البستان
تأوب الحسناء من حيث أتت
وأنت تصيبك كثير افكارٍ
تلقيك ما بين شتاتٍ
وتشعر لنفسك بإشفاقٍ
ولحالك بغثيان
ليلك أرِقٌ أيها المسكينُ
فاقضه مفكراً حائراً ثائراً
متمرداً مدمِّراً
مدمَّراً محطماً
اقضه كيفما شئتَ
ستقضيه في كل الأحوالِ
محترقاً سهران
كل ما حولك يشتعل بكَ
وتتخطفك كيفما التفتَ
نيرانٌ وألسنةُ لهبٍ
تتبعها نيران…

يطلع الصبح
على الشرفةِ القريبةِ
على أرقكَ
نسائمه العليلة لا تطفأ احتراقكَ
بل تأخذك كراهيةٌ لشيءٍ ما
تتحول من يائسٍ
من بائسٍ حيران
يغزوك غضبٌ جامحٌ
تمتطي جواد الانتفاض على ما أُلت إليهِ
لوهلةٍ تعود فارس الفرسان
لكن النظر يسبقك مجدداً
نحو الشرفةِ القريبةِ
ومجدداً تظهرُ
سيدة الحِسان
على الوجه شمسٌ باسمةٌ
نحوك تلقي الطرف باستحياءٍ
أنت من يملك كل شيءٍ الآن
أنت المحظوظ مَن
ضحكت له الدنيا مختالةً
ورقصت به فرحاً
هذي المجرة
بل كل الأكوان
أنت من يزهر له الربيعُ
وتزفه بأبهى حلةٍ
أيام نيسان
بطلٌ انت مقدامٌ الآن
أتلقي عليها تحيةً
أتفكر في طريقةٍ
لتبعث إليها بسلام
أتبحث عن أقرب زهرةٍ لتقطفها لها
أتقرأ لها قصة ليلك الطويل
وما حل بك من وجدٍ
وما فعل بك الهيام
تتقاذفك الأفكار
ماذا أنت فاعلٌ الساعةَ
أيها العاشق الولهان
جل ما تقدر عليه نظراتٌ لا تشبع
إلى الوجه الملائكي
إلى عذوبة الإطلالةِ
لحوريةٍ بصورة إنسان
تختار الصمت اللذيذ وما ألذهُ
حين يختلط بابتسامتها الخجولةِ
بلحاظ عينيها
بالنظر إليها
تجول الشرفة القريبةَ
وما أجمل الشرفةَ
من مكان…

نحو الشرفة القريبةِ
تسوقك قدماك
لا شيء سواكما
لا حفيف الأشجار
ولا الشمس الساطعة
في وضح النهار
لا شيء سواكما
وسوى إيماءة تحيةٍ خجولة
كثير ابتسامات
خفقٌ عذبٌ ونبضات
قليلٌ ما يقوله اللسان
الجزيل تنطقه العينان
على لقاءٍ قريبٍ تتفقان
بسيط أحاديثٍ تتبادلان
أنت في خضمِّ تقديم وردةٍ ووجدٍ إنما
شيءٌ ما يردعكَ
ينبهك لما لم تأخذه في الحسبان
شيءٌ ما يهمس لك:
أولست تدري بأن الحب والرحيل توأمان
مع ارتعاشة القلب يولدان
وأنتما ما أنتما إلا غريبان
ألئن اجتمعتما اليوم
فمحالٌ لكما غداً اجتماعٌ
وهيهات بعد الوداعِ
هيهات تلتقيان…

عن الشرفةِ القريبةِ
كلاكما تبتعدان
وبعد ساعةٍ
في سبيلكما تمضيان
لمصيركما تجهلُ
أو تجهلان
تسحبكما ثقوب الحياة بعيداً
ما بين أشواكٍ وآلامٍ
ما بين مخاضاتِ غربةٍ تتجددُ كل يومٍ
ما بين قسوة عناصرَ
ودهرٍ غادرٍ
يتقن الخذلان
تمضي الأيام مسرعةً
تمر السنون ثقالاً
كثيرةٌ عِجافها
تندر فيها السِّمان
الشرفة توغل في الابتعاد عنكَ
فلكأنها من مجرةٍ ثانيةٍ
أو من كونٍ
لا يشبه هذي الأكوان
لكأنما وجه السماء المكفهر دائماً
يحجب عنك وجه الحسناء
ويلقيه بعيداً
في أكمةِ النسيان….

نحو الشرفةِ القريبةِ
تشاء الأقدار أن تعود ذات يومٍ
من أيام لعنات الزمان
تعود الشرفة خاليةً كما كانت
تعصف بها ريحٌ ووحدةٌ قاحلةٌ
وذكرى سماء ربيعيةٍ كعيناها
وعيناها ضاعتا
ما بين ازدحام الطرقاتِ
ضجيج العابرينَ
أزيز الطائراتِ
وتلاطم السفنِ
ما بين رمالٍ وصخرٍ
وزبد شطآن
ما بين رؤوس غائرةٍ
وموانئ
وخلجان
تتخطفك الذكرى
تعصرك بحرقةٍ
لا تمحوها طائرةٌ ورقيةٌ
بيد طفلةٍ ضاحكةٍ تلهو قربكَ
ولا بعض الكتاباتِ
على أجزاء من تلك الجدران
وإن كان قد تغير قليلاً المكان
فشيءٌ ما يبقى وسيبقى
ليخبرك بأن ما خطر لك ذات يومٍ
كان وساوس شيطان
وبأن كل مقاصد ارتحالك
وما جنته سنين ابتعادك
لم تكن سوى دخان
يذروه هباءٌ وتيهٌ
ثم دخان….
 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى