دولياتسياسة

الجمهوريّة المقطوعة الرأس؟

 


د.نسيم الخوري*
ينتابني القلق الكبير من أن تكون الرؤية الراهنة المتبادلة بين الغرب والمسلمين والإسلام معضلة مستعصية ودائمة الإرباك أو هي أسيرة الملامح المفروضة والمستوردة بجذورها الدموية وصورها التاريخية البشعة المحفورة في الذاكرة منذ القرن الحادي عشر. لقد شهد أهل الديانتين التوحيديتين منذ بدايات الحروب الصليبية وبروز الهويّة القومية الغربيّة الحديثة، مروراً بالإستعمار الأوروبي الواسع الشاسع، ثمّ انبثاق العظمةالأميركيّة إلى ما بعد الحرب العالمية الثانيّة وصولاً إلى تداعيات نسف البرجين في 11 أيلول 2001، وكلها أغرقت وتغرق الإسلام والمسلمين ومسيحيي المشرق بمذابح دموية وخطيرة ومتجدّدة  وخصوصاً في ربيع العرب والشرق الأوسط.
نعم. يتجدّد الصراع من الرؤوس المقطوعة في باريس تعاطفاً كونيّاً لقيم الديمقراطية و"الحريّة"، وأسمحوا لي بسجن مصطلح الحريّة بين قوسين. لماذا؟ لأنّها أفرغت من معانيها وقيمها الحضاريّة.
"الرأس المقطوع في باريس"، أربع كلمات شديدة الإثارة بالطبع على بشريةٍ سجنها الكوفيد 19 في كهوف وسائل الإعلام ويغذّيها بالإثارة والتحريض استجلاباً للإعلانات. برزت الإثارة فور احتلال صورة رأس صموئيل باتي المقطوع العين العالمية بصفته أستاذ تاريخ بلغ ال47 عاماً. هاجمه، وهو في طريقه من المدرسة الإعداديّة إلى منزله، إرهابي مسلم شيشاني مولود في روسيّا ومقيم في باريس منذ عشر. تمكّنت الشرطة الفرنسية من قتله في المكان نفسه (الجمعة 16/9/ 2020).
بردت الإثارة قليلاً بعد شيوع سبب الجريمة حيث أنّ الأستاذ الجاهل راح يعرض على تلامذته رسوماً كاريكاتوريّة لنبي المسلمين الكريم تمّ نقلها على صفحات الفيسبوك.
بردت الإثارة أكثر مع ردود الفعل بوصول الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى المكان، ثمّ تجمّع الألاف في مسيرات صامتة على شرف المعلّم، إلى وقوف البرلمان الفرنسي دقيقة صمت عن نفسه ( الثلاثاء 20/9/2020)، وصولاً إلى حفل التأبين الرسمي مع عائلة باتي بحضور 400 شخصية ومنح الأستاذ أرفع جائزة فرنسية ووسام الشرف في مبنى جامعة السوربون. ولأنّني من طلاّب القدامى لهذه الجامعة العريقة السوربون والمعلّمين فيها، شئت أن أدرج هذه الإشارة اللافتة على سبيل التقدير الرسمي سواء أكان مقصوداً أم لا.
أظنّ وقد لا أكون مخطئاً، أنّ تصريح رئيس وزراء فرنسا عقب الجريمة، بأنّ "الإرهاب ضرب قلب الجمهورية"،  ضاعف الإثارة لثلاثة أسباب:
1- لأنّ رأساً مقطوعاً قبل 5 سنوات (25/7/2015)عثرت عليه الشرطة الفرنسيّة وإلى جانبه كتابات باللغة العربيّة خلال عهد الرئيس السابق فرانسوا هولاند بعد انفجاراتٍ  قرب مدينة ليون في قلب مصنع كيماويات وقعت بعد ستّة أشهرٍ من تنفيذ إسلاميين هجمات في قلب باريس أودت بحياة 15 شخصاً.
2- إنّ قطع رأس استاذ التاريخ إذن هو الهجوم الثاني بسكين يُعلن عنه باسم الانتقام لنبي الإسلام، منذ أن بدأت الشهر الماضي المحاكمة المتّهمين بجرائم القتل التي سبق وحصلت في مجلّة شارلي إبدو (7 /1/ 2015) وأورثت 12 قتيلاً و11 جريحاً من صحافيين ورسامي كاريكاتير نشروا رسومًا مسيئة للنبي محمد.
إنّ رئيس فرنسا، وبعد أن أصبح "الإنفصاليون الإسلاميون" هو العنوان والظاهرة الأبرز التي تقلق الفرنسيين والأوروبيين، وبعد سنوات خمس من الهجوم الإرهابي المذكور على مجلة شارلي إيبدو، أعلن قبل مباشرة محاكمة المهاجمين للمجلّة، وبالتزامن مع سير العدالة، عن حريّة "حق التجريح" كبندٍ من حقوق الحريّة والتعبير. والأنكى والأخبث أنّ تلك المجلّة أعادت نشر دزينة الصور عينها على غلافها بعنوان :"وجه محمّد" وهي الصور نفسها التي كانت السبب المباشر الأساسي للهجوم. 
3- الأغرب والأنكى من هذا كلّه، أنّ مجلّة شارلي إيبدو وعدت ولمزيدٍ من الإمعان في التحدّي والنكاية ، بأنّها ستعرض على غلافها في نسختها القادمة الثلاثاء أي غداَ (20/10/2020) الرسوم المتحركة التي أورثت وتورث العديد من الخضّات في المجتمعات الفرنسي والأوروبي والعالمي تحت عنوان: "الجمهورية المقطوعة الرأس".
لنتذكّر قولة الرئيس الأميركي جورج بوش بالحروب الصليبية عند تدمير العراق 2003، ومثلها الصور الكاريكاتورية الدانمركية والنروجية والفرنسية البشعة التي شوّهت النبي في ال2005 وال2006 وكانت النتيجة حرق الكنائس والقنصليات والسفارات في دمشق وبيروت وعواصم العالم.

ماذا يتوقّع العقل العالمي عموماً، من زلاّت الألسن والتحدّيات العدائيّة من الإسلام والمسلمين واستفزازهم في مقدساتهم وماذا ينتظر المسلمون باستفزازهم الغرب وخلق أحياء ومجتمعات صغيرة ومعازل إسلاميّة سوى نشر الكراهية والبغضاء والأحقاد والمزيد من التعصّب والتطرّف؟ .
ماذا ننتظر ممّا نشهده من أفعال وردود أفعال تجذّر العداوات بين المسلمين والمسيحيين والعلمانيين كما تهدّد المسيحيين المشرقيين، وتجذّر الحميّة الثقافية في معاداة الغرب والشرق وفي بذر الفتن الطائفية وإذكاء الإرهاب وقطع الرؤوس والتفجيرات ؟
لقد أخفق العقل البشري، بالرغم ممّا وصل إليه، من تصفية هذا الملفّ الثقيل المتناسخ منذ العهد القديم حافلاً بالشرور والقتل وتشويه صورة الخالق. ما هذا البشري الذي يخاف ربّه؟
الربّ لا يخيف الإنسان وهو حشرة لكنّه على صورته ومثاله.
ليست هذه الإستعادات، سوى التلطّي  بالزلاّت Lapsus ثمّ الإعتذار عنها وهي لم تحقق لهذا اليم الشاسع المتنامي من المؤمنين ثوراتهم الفكرية المطلوبة اقتداءً بالغرب بقدر ما تجعل المسائل أكثر تعقيداً وخطورة فتورث الإنفجارات والدماء والإنقسامات في الكرة وخصوصاً في ملاعب الشرق الأوسط لتسقط هياكل الحكمة لصالح إسرائيل.

*كاتب وأستاذ مشرف في المعهد العالي للدكتوراه
Drnassim@hotmail.com

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى