العالم العربيسياسة

الثابت والمتغير في السياسة الخارجية الأميركية وكيفية التعامل معها

 

.
السفير د . جواد الهنداوي-بروكسل
                  
اكثر من سبب ومن مناسبة تبّرر تناول الموضوع ، وقد تكون المفاوضات الأميركية – العراقية في شهر حزيران المقبل واحدة من بين الأسباب او المناسبات .
لا يتوقف نجاح المفاوض العراقي على سعيّه لإنجاز ما يبتغيه من أهداف ، وانما يتوقف على أدراكه لقدرة و رغبة الطرف الآخر ( واقصد الطرف الأميركي ) على قبول و تنفيذ تلك الأهداف ، ايّ ليس المهم قبوله بما يريد العراق ، و إنما الأهم هو قدرة الطرف الأميركي  على تنفيذ ما سيقبله ويلتزم به  .
و أحترام أميركا لالتزاماتها يتوقف على علاقة  الالتزامات  بثوابت وبمتغيرات السياسة الخارجية الأميركية .
نتساءل إذاً ، ماهو الثابت و ماهو المتغير في السياسة الخارجية الأميركية ؟
ثوابت السياسة الخارجية الأميركية هي الحفاظ على هيمنة الولايات المتحدة الأميركية ،اولاً ، و رعاية أمن اسرائيل والسعي الى جعلها ألمُهيمنْ في المنطقة ثانياً.
اما المتغيّر فهو علاقات أميركا مع الدول و مع المنظمات الدولية ، والمواقف التي تتبناها تجاه الوقائع و الأحداث السياسية . بمعنى آخر ثوابت السياسية الخارجية الأميركية هي الأهداف المرسومة ،  وأوصفها بالثوابت لانها أصبحت، عند الإدارة الأميركية  ، مُقدسّة. اما المتغيرات في السياسية الخارجية الأميركية فهي الوسائل المتبعة لتحقيق الأهداف.
وصفتها بالمتغيرات بدلاً من مصطلح الوسائل لأنَّ علاقات أميركا مع الدول ومواقفها تجاه الوقائع و الأحداث غير  مستّقرة،  و غير قابلة للتوقّع و لا تبعث للاطمئنان و لم تعدْ محلْ ثقة.
عند متابعة العلاقات الأميركية التركية ، على سبيل المثال، وخلال مدة خمس سنوات، نلاحظ بوضوح تأرجحها بين الموجب والسالب ، وفي مسار مضطرب ، و ذلك بسبب التفاوت بين المصلحة و الأطماع التركية وثوابت السياسة الخارجية الأميركية المتمثلة بهيمنة أميركا على العالم و بأمن وضمان هيمنة اسرائيل في المنطقة ، تفاوت كبير بينهما ،بالرغم من أنَ تركيا هي دولة داعمة و ساندة للسياسة الأميركية في المنطقة و في العالم . سبب هذا التفاوت ،والذي يبدو طبيعياً و مقبولاً في العلاقات الدولية ، هو أنَّ الثوابت السياسية الأميركية أصبحت ليس فقط مهمة و استراتيجية وانماّ مُقّدسة ولا يصُحُ المساس بها.
ذات الحكم وذات التقييم إنْ تحدثنا عن العلاقات الأوربية الأميركية.
لم تعدْ أميركا تُطيق وجود الاتحاد الاوربي ، لم يعينها على تمدد هيمنتها ،إنْ لم نقلْ منافساً ناعماً لها على الهيمنة  ومُزعجاً ،في بعض قراراته  ومواقفه،  تجاه اسرائيل و لصالح الحقوق الفلسطينية.
ثوابت الولايات المتحدة الأميركية بقيت، كما هي ومنذ الحرب العالمية الثانية ،  وصمدت، لانها من الإنتاج العقائدي للدولة  العميقة، وليس من انتاج الإدارة الأميركية،  ولانها معّنونة الى العالم ،محيطها العالم وليس فقط أميركا. أميركا  تتولى التبشير برسالة الثوابت  ونشرها وتطبيقها.
المتغيرات هي التي تتبدل  وتتعدد و غالباً ما يكون تعددها  وتبدّلها على حساب المبادئ التي تحكم العلاقات الدولية و القواعد الدبلوماسية والقوانين الدولية. شهدنا، على سبيل المثال ، موقف أميركي ضّدَ مجلس حقوق الانسان، لانَّ هذا المجلس اتخذ قراراً ضّدَ اسرائيل ، شهدنا ايضاً مواقف مماثلة   لأميركا ضدّ اليونسكو ،لانَّ هذه المنظمة الدولية اتخذت قرارات ، رأتها الإدارة الأميركية ، معادية لاسرائيل ، فأوقفت أميركا تمويلها للمنظمة و انسحبت منها .
بسبب الانسياق الأميركي لقوة  وتأثير هذه المتغيرات  ، فقدت السياسة الخارجية الأميركية دبلوماسيتها ( انظر في ذلك كتاب بعنوان القناة الخلفية، للسفير  الأميركي ويليام بيرنز، عام ٢٠١٩، دار النشر ،نيو نوردم هاوس )، والذي يبيّن فيه لماذا وكيف فقدت السياسة الخارجية الأميركية دبلوماسيتها  ، وغالَ تطبيق ممارسة ازدواجية المعايير في سياسة أميركا غولاً ، فخسرت الولايات المتحدة الأميركية الكثير من مكانتها وهيبتها، وهذا ما صّرحَ به سياسيون أميركيون من الديمقراطيين ومن الجمهوريين. تلك الازدواجية التي فضحَ الإرهاب بشاعتها، أميركا توظّف الإرهاب في العراق وسوريا، وتدعي محاربته، او تارةً ولأسباب تقتضيها مصلحتها او مصلحة اسرائيل ، تحاربه؛ تدعم، و دون حدود، ارهاب  واحتلال اسرائيل ، وتتهم الشعوب والدول التي تقاوم ارهاب  واحتلال اسرائيل بالإرهاب !
على ضوء ما تقدم ، هل للعراق الآن مصلحة بثوابت او / وبمتغيرات السياسة الخارجية الأميركية؟
  سياسياً و اقتصادياً، كيف تنظر اليوم أميركا للعراق ؟
مصلحة العراق اليوم أنْ يكون بعيداً عن ثوابت ومتغيرات السياسة الخارجية الأميركية ، اي ان يكون مانعاً  في تسيّد وهيمنة اسرائيل الساعية الى جغرافية  وخارطة بدون حدود  في المنطقة، او بحدود من الفرات الى النيل. سياسة أميركا في المنطقة و في العراق و تجاههما موزونة بمعيار  مصلحة وهيمنة اسرائيل.
مسار سياسة أميركا تجاه العراق والمنطقة ، ومنذ سبعينيات القرن الماضي، يشهدُ، وبمحطاتهِ المختلفة على ثبات هدفهِ ، والذي تدّرج من ترسيخ وجود اسرائيل الى ضمان أمن اسرائيل والى هيمنة اسرائيل على المنطقة .
فرضت أميركا على العراق، او ساهمت، بكل ما من شأنه إضعافهِ ِوتدميره : حروبه مع ايران ، احتلاله للكويت ، حصار العراق وتحرير الكويت والحيلولة دون إسقاط النظام والمساهمة بقمع الانتفاضة، احتلال العراق ونهبه وتدمير بنيته التحتية و تشجيع الفساد، والمساهمة ، من خلال دورها( واقصد دور أميركا )  في مجلس الامن ، ترسيم غير شرعي و غير قانوني للحدود بين العراق والكويت  إلخ …
اسرائيل تريد وتسعى الى عراق ضعيف ومهّمش ، ولا يمكن لأميركا الاّ ان تتبنى سياسة تجاه العراق تتماشى مع مصلحة  ورغبة اسرائيل!
"الولايات المتحدة" لم تعد بحاجة سياسية او اقتصادية للعراق، في المرحلة الراهنة، كل ما هو مطلوب تجاه العراق هو الحيلولة دون جسر بري يربط طهران بلبنان  وبواسطة العراق . المرحلة الآن هي مرحلة توّسع سياسي لاسرائيل، من خلال إكمال  التطبيع وحصد ثماره ، و مرحلة توّسع جغرافي لاسرائيل بواسطة ضّم الضفة الغربية و غور الأردن.
في المفاوضات العراقية الأميركية المقبلة، سيكون الموضوع الأساسي الوحيد للعراق ولأميركا هو إنسحاب آمن وسريع للقوات الأميركية المتواجدة في العراق.
*سفير عراقي سابق ورئيس المركز العربي الأوروبي للسياسات وتعزيز القدرات -بروكسل

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى