رأي

انيس النقاش ملهم فاق ملهميه(محمد صادق الحسيني)

 

بقلم محمد صادق الحسيني

 

تتزاحم الشجون والمشاعر والذكريات والمحطات في ذهني كما تتزاحم الأقلام اليوم في رثائك يا أنيس. هذا اليوم في ذكراك السنوية، ولا أدري من أين أبدأ وأين أنتهي معك وأنت اليوم صرت كلّ الحكاية… ولا تقل «انتهيت وماتت الرواية»، فنحن لا ننتهي بل ننتقل من هذه الدنيا الفانية الى تلك الآخرة الباقية…

 

حاولت يا أنيس أن أرثيك بقلمي المكسور وظهري المنحني حزناً وقلبي المفجوع برحيلك الفجائي، كما ينبغي، فما وفقت ولكنني أكتب إليك بضع كلمات لعلها تشفي وجعي…

 

لقد رحلت عنّا من دون وداع ولا استئذان، إلا من عمّتنا العقيلة زينب عليها السلام والتي زرتها مودّعاً ومستئذناً قبل أيام من إصابتك بهذا الوباء اللعين، كما هي عادتك وولعك الهندسيّ في رسم المثلثات والمكعّبات وتشفير الرسائل والكلمات فبحت للعقيلة الحوراء ما لم تبحه للآخرين ورحلت.

 

آه يا أنيس كم مرةٍ كنت قد قرّرتَ الرحيل وما أذن الله لك…

 

دعني أبدأ معك من حيث البداية الهندسية للرواية…

 

هل تتذكر أول مرة تعرّفتُ فيها عليك في مكتبك لهندسة الديكور في كورنيش المزرعة في سبعينيات القرن الماضي، يوم كنت تخطط مع رهط عظيم من أصحابك مثل هاني فاخوري وعلي يوسف ونزار الزين ومحمد بركات ومحمود هلال رسلان ونذير الأوبري وخالد الشحيمي ومروان الكيالي وعبد الحسن الأمين وعصمت مراد وسمير الشيخ وربيع الجبل ومحمد عرندس وعشرات آخرين من الرموز والقامات الأخرى «للاستيلاء» على لبنان كلّ لبنان وتسليمه كله لفلسطين، هدية من بيروت كليمة البحر والبحّارين العاشقين للسفر الى المحيط الأرحب، بيروت العصية على الدخلاء والغرباء إلا من آمن بالله ورسله وأنبيائه، ونحت في صخورها ورسم على جدرانها وهندس ديكورها بلوحات فلسطين؟

 

هل تذكر كيف اخترقتَ يومها كلّ حواجز و”سيطرات” القرار الدولي والإقليمي والمحلي المتكلّس بنمطيات «لبنان قوي بضعفه» و”لبنان مرآة عاكسة لتناقضات المحيط” و”العين ما فيها تقاوم المخرز»، لتتمكن من إيصال منشوراتك الى قرى جبل عامل تدعوها للقيام.. وزدت على ذلك طموحاً بتجنيد بعض ضباط الأمم المتحدة على الطرف الآخر من الأسلاك الشائكة ليوصلوا صوتك الجهوريّ وصوت حركتك لبنان الأرض بتتكلم عربي الى أهلنا في فلسطين؟

 

كيف أرثيك اليوم وأنت أنت، أنت الذي هويت من علياء جبل قاسيون بقوّة فرط صوتية لم نألفها فيك ولا منك، وفي عينيك اللتين كانتا دوماً مسدّدتين الى جبل الشيخ والجليل الأعلى فإذا بهما تغفوان على سفوح جبل عامل ودماوند فاستحضرت مع رحيلك المدوّي هذا أبا جهاد خليل الوزير ومحمد صالح الحسيني وعماد مغنية وآخرين كثراً من رجال المشروع الأممي المقاوم المبدعين.. وإصراري على ذكر هؤلاء الثلاثة تحديداً لأنهم كانوا المواكبين والملهمين لك في لحظات التحوّل والتغيير الأساسية في عمرك السياسيّ، وإنْ أصبحتَ «ملهماً فاق ملهميه» في بعض فصول عطائه بأشواط.

 

رثاؤك يا أنيس ليس بالأمر السهل وأنت كنت عنوان التحوّل والإبداع والهندسة الديناميكيّة في ثلاث محطات أساسية:

 

1 ـ أنيس لبنان العربي

 

يوم اجتمع الكون كله ليخطفه من عروبته وفلسطينه فكنت سيد المرحلة في الدفاع عن عروبة لبنان الرديفة لفلسطين بكلّ تقاسيم العروبة والإسلام مانعاً المرجفين من سلخ لبنان عن بحره ومحيطه والمتحجّرين الظلاميين عن التفريط بإسلام محمد الأصيل.

 

2 ـ أنيس إسلام الخميني

 

يوم اجتمع الكون كله ليمنع ولادة إيران الإسلام معلنين الحرب عليها لأنها نادت بإيران اليوم وغداً فلسطين.

 

فكانت نخوتك العربية وصفاء روحك ومن عشقت من السهرودي وملا صدرا وعرفان إمام العصر لتتجلى وحدة العقيدة لديك في نظريتك التي أحببت وآمنت بأنّ مهندس هذا الكون واحد ونوره واحد، ما عنى لك أن تترجمه بانتقالك الى المرحلة الأرقى وهي الجمع بين جناحي الأمة الإسلامية عنيت به مرحلة الإسلام المحمدي الأصيل على سنة محمد وفي تشيّع علي والتي تمثلت لديك وتبلورت بالانتماء.. نعم الانتماء لمدرسة ونهج محقق حلم الأنبياء ووارث آدم والحسين عليهما السلام، عنيت به الإمام روح الله الموسوي الخميني.

 

3 ـ أنيس حضارة المشرق

 

يوم اجتمع الكون كله لينتقم من كلّ حواضر الأمة العربية والإسلامية ممثلة بشام المسيح ومحمد، وبعثوا جيوشهم الناطقة بعربية زائفة كاذبة والحاملة راية ظلامية سوداء تحمل في جوفها عدة وعديد بقايا عصابات الهاغانا وشتيرن وسواهما من جيوش الشجرة الملعونة في القرآن، فكنت أيضاً سيد المرحلة وعنوانها منذ اليوم الأول، ولم تختلط عليك الأمور ولم تشتبه، فأطلقت نداءك الشهير بأن هيا لننتقل من الاشتباك «المنفرد» الى التشبيك «المتحد» لتصبح الساحات والدماء واحدة متّحدة كما هو هدفنا الواحد الموحّد…

 

ويوم صرعت الإمبريالية والصهيونية على بوابات الشام وصعد من صعد الى بارئه من القادة والأحباب وأخيرهم وارث كلّ علم الحروب والمقاومات وابن الخميني البار ومالك علي الخامنئي الى السماء، عنيت به أسطورة الشرق الحاج قاسم سليماني، قرّرت أن تذهب أنت بكليتك الى دمشق لتخوض ما كنت تعتقد وأنت محقّ بأنها المعركة الأخيرة ما قبل الصعود إلى الجليل الأعلى، أيّ معركة منع تكرار سيناريو العراق الذي يحضر لسورية الأسد ولبنان، ولكن هيهات لهم ذلك. وقد نجحت في أداء واجبك وقسطك في المعركة، مبدعاً وملهماً.

 

وبينما جيش سورية الأسد وحلفاؤه الأوفياء يستعدون لتطهير ما تبقى من أرض الأنبياء وأرض المعراج الى السماء، والكلّ يعدّ العدّة ممن تعرفهم وآخرين جدد يأتون الينا من كلّ حدب وصوب ومأرب… فإذا بك تفاجئنا بالترجّل عن صهوة فرسك والرحيل…

 

لماذا يا أنيس…!؟

 

سؤال يُمعن في إيلامنا، لكن الله يقول لنا بلسان الوحي:

 

«ولكلّ أمة أجَل فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون».

 

آمنا بالله وهو الحق والموت حق…

 

رثاؤك صعب يا أنيس بعد أن قلّ الأنيس لولا أبي هادي الأمين وبعض رهطه وحوارييه…

 

وبعد أن صار لنا في السماء أكثر مما لنا في الأرض، وبعد أن اشتعل الشيب فينا لهباً…!؟

 

ولكن لا يا أنيس، فعهدنا وإياك ألّا نستسلم، لا للجنرال كلل ولا للجنرال ملل، ولا للجنرالات الآخرين إحباط ويأس وقنوط، فرحمة الله واسعة…

 

وعهدُنا الأول نحن «جمعية المصدقين» هل تذكر.. هكذا كانوا يسمّوننا.. بأننا مصدقون أنّ الأمور بخير وانّ كلّ شيء على ما يُرام وانّ التحرير آتٍ وانّ أمر محمد وآل محمد قائم…

 

نعم يا أنيس قسماً بمن أحببت وبمن آمنت وبمن التحقت أننا على العهد باقون والى الجليل وجبل الشيخ صاعدون ونحن نردّد … “نحن اللي خلينا الدنيا تحكي بلهجة فلسطين» و”أنا ابن فتح ما هتفت لغيرها» طبعاً فتح التي كانت تعني فلسطين كلّ فلسطين وكلّ من حمل البندقية بعدها وقرّر الاشتباك خيراً دائماً لأجل فلسطين حرة عربية مستقلة تسبح في محيطها العربي والإسلامي، ومدعومة من كلّ أحرار العالم الذين أحببتهم وأحبّوك يا أنيس الإنسان..

 

نم قرير العين يا أنيس واطمئن، وعندما تستفيق غداً أخبر حواريي عيسى المسيح وجند محمد عندك من ضيوف الرفيق الأعلى بأننا قادمون وكلّ واحد من أهل الاختصاص فينا، قد أخذ موقعه الخاص به في المستوطنة او المستعمرة التي سيحرّر… وسنصلي في القدس…

 

ولكن مع ذلك يا أنيس…

 

ثمة وجع وألم وحنين في قلبي لعودتك وعودة مَن معك هناك في الفردوس الأعلى وأنتم حول محمد وعلي وفاطمة والحسن والحسين متحلقون…

 

ولكن الحزن عليك يا أنيس جاء أضعافاً مضاعفة.

 

كما أخبرتك أعلاه فأنت برحيلك استحضرت كلّ القامات والهامات التي سبقتك…

 

ولم يبق في جعبتي إلا هذه الأبيات التي رثا فيها الشريف الرضي صديقه أبا اسحق الصابي:

 

اعلمت من حملوا على الأعواد

 

أرأيت كيف خبا ضياء النادي

 

جبل هوى لو خرّ في البحر اغتدى

 

من وقعه متزاحم الإزباد

 

ما كنت أعرف قبل حطك في الثرى

 

أنّ الثرى يعلو على الأطواد

 

اقبلها مني أوتاراً في غمد سيفً مليء بالشجن

 

لا أقول لك وداعاً يا أنيس حتى النفوس المستوحشة من بعدك، فأنت من جنس الشهداء… حيّ بيننا وان كانت كورونا قد فتكت بك على حين غرة بالوكالة عن العدو الأصيل الذي هزمته في أكثر من ميدان…

 

قادمون يا أنيس من هرمز التي جهّزت راداراتها البحرية بيديك، الى باب المندب التي كنتَ تعمل على تحضير سفينة كارينA  2 لها، حتى مع غياب عماد…

 

ومن البصرة التي لطالما نصحت بحسم أمرها قبل فوات الأوان الى بنت جبيل التي لطالما حرست تلالها أنت والقامات الكبرى التي كبرت وكبرت حتى حققت الانتصارين وصار عدوّك وعدوّنا أوهن من بيت العنكبوت…

 

أنت رحلت بدمك يا أنيس مرفوع الهامة منتصراً…

 

ونحن بقينا هنا ننتظر إشارة حبيبك وحبيبنا معركة يوم القيامة التي نكاد نلامسها بين يوم وآخر في معادلة قوة جديدة لجغرافيا آخر الزمان.

 

ستبعث فيها أنت ورفاقك الذين سبقوك لتقاتلوا معنا من جديد بهندسة هذه المرة من نسج رب الكون.

 

الله وياك الله وياك الله وياك.

 

 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى