العالم العربيسياسة

البابا من نافذة الخليج: تحولات

في الشكل:
1- أمر لافت وعظيم أن تتناول الإمارات من جيبها أو من شلحة رأسها أو من ثوبها الناصع محرمةً بيضاء ترفعها راية سلام في وجه العالم، في زمن عربي/إسلامي منهك بالإرهاب ومعقّد بسياسات الدول الممزقة بالحروب المستوردة التي دمّرت القيم في العلاقات الدولية.
أمر ثمين أيضاً أن تتقدّم الإمارات بمحرمتها بعدما قصّتها وخاطتها وبلّتها في مياه الخليج لتمسح البؤس جنوحاً نحو الحوار والسلام إذ هناك ثلاثة ملايين ونصف المليون مسيحي في شبه الجزيرة العربيّة
من قال أنّ فضّ الحروب والكوارث والنزاعات تاريخيّاً تستأهل، للأسف، أكثر من محرمةٍ أو بسمةٍ أو كلمةٍ طيبةٍ أو تواضع رؤوساء وقادة سياسيين ودينيين يقضمون أصابعهم ندماً وبصمت ويعتذرون جهراً في غفلة من إقامة الناس في قهرهم وجروحهم وإعاقاتهم وخسائرهم؟
واضحة، إذن، إستدارة عين العالم نحو إطلالة ربيع ال 2019 الذي ولّدته الإمارات وأسمته عام التسامح وفرشت له زهوراً ونوايا وغطّت رأسه بلباس البابوات والأزهر لربّما تقيه بقايا العواصف التي غالباً ما تكون أشدّ إيذاءً من الأعاصير.
يترقّب الجميع من هذه المبادرة، عودة الربيع إلى الربيع وتغطية الأحزان بالسماح والمسح.
2- ليس مقالي هذا نصّاً للمدائح والتراتيل في المجال ، ولا قصيدة عربيّة أو إحتفالية يتبارى فيها أهل الحبر والقول. ليست شكلاً طقوسيّاً سياسيّاً أو دينياً عابراً. إنّه الأكاديميا تتأمّل وتحدّق…
هذا إعلان/حبر أغراه البياض من مقصد لبناني عربي ولنسمّها واحة إسلامية بيضاء تدعو لقفل ساحات الغرائز الفالتة وفتح العقول المهشّمة بحضارة التسامح تذكيراً بكلمة السماء بأنّ "الله لا يسرّ بالدماء" وفقاً لما قاله البابا بنديكتوس السادس عشر.
3- ألمح من عرزالي، طوفاناً من الأسئلة الحائرة الصعبة فوق دموع الأمهات واليتامى والفقراء والمشرّدين والعجائز في أشلاء المدن المدمّرة في العراق وتونس إلى مصر وليبيا وسوريا واليمن ولبنان. وألمح أيضاً، جبالاً من علامات الإستفهام المتكدّسة فوق وجوه النازحين واللاجئين والمهاجرين في وحول العواصم والمنافي البعيدة وبؤسها قاعدين في الشاشات وحولها يتفرّجون على المشهد في مدينة زايد صباح الخامس من شباط/فبراير 2019 حيث يحيي البابا فرنسيس رأس الكنيسة الكاثوليكية قدّاساً يشارك فيه 135 ألفاً من المقيمين والزائرين المسيحيين واليهود والمسلمين والبوذيين في الإمارات الحاضنة لأكثر من 200 جنسية تسمح لها بأن تعلن عن نفسها بأنّها أرض الإنسان والبركة.
الإمارات بالميم والإنارات بالنون أيضاً ؟
لم لا ؟
لا مسافات نقطعها في الإنتقال من الميم والنون.
تذكّرني الميم بموسى والمسيح عيسى بن مريم ومحمّد . وترشدني النون إلى نور الدعوة للخروج من الأنفاق النفسيّة والكهوف والإرهاب وملاقاة الضوء وعدم تسييس الدين وعصر صفوة الإخوّة المسيحية الإسلامية في هذه البقعة من الشرق التي حباها الله كنوز الأرض بعدما خصّها بكنوز الإيمان وقد غاب العالم جشعاً عن قيمه وأخلاقياته.
نجحت الإمارات في تقديم نفسها نافذةً أكاديمية عالمية وأنموذجاً من الإختلاط والتعايش والتقدّم والوفرة والرخاء.
تستحقّ دكتوراه دولة في السماح برتبة جيّد جداَ والعلامة تسعون على مئة مع التنويه العالمي.
في المضامين:
1- إختار البابا فرانسيس الممتليء بالبساطة وخليفة البابا بنديكتوس السادس عشرالنحيل و المستقيل، النافذة الإماراتية من بين 12 ألف نافذة في جدران الفاتيكان حافلة بالمعاني والألغاز الكبرى.
لكي نفهم وزن هذا الحجم في الإختيار ومكانه وزمانه، أذكّر القرّاء بمثل إيطالي يقول:
"عندما يتسلّم رأس الكنيسة الكاثوليكية بابا ممتلئ القامة، فهذا يعني بأنّ من سيخلفه سيكون حتماً نحيلاً ".
هذا المثل معروف ومتداول منذ إنتخاب البابا "مونتيني" النحيل مكان سلفه البدين "رونكالي". هذا يعني أن الكنيسة اعتادت تشريع نوافذها لتركّز مع البابا النحيل إجمالاً، على البؤساء والضعفاء من مختلف الأديان، لكن ما أن ينتخب من بعده بابا جديداً شاء التاريخ البابوي والصدفة أن يصل ممتليء القامة، فمن الطبيعي أن يركّز همّه من السدّة الكنسيّة على إشاعة الاستراتيجيات السياسية الكبرى والمشاركة في إدارة العالم.
يتمحور تاريخ الكنيسة إذن بالتتالي : ولاية بابوية تنشغل بحقوق الروح والإيمان والمثل وأخرى تليها مسكونة ب حقوق الإنسان والبشر في الأرض، مع أنّ التفريق بينهما صعب.
2- لمن لا يعرف: لا تتجاوز دولة الفاتيكان ال 44 هكتاراً لكن إليها تصل خطوط السياسة العالمية لتنحني وتتشابك. إليكم مثال على ذلك:
اختلف البابا بيوس الحادي عشر مثلاً مع ستالين الذي اتّهمه بمهادنة الكنيسة ل: هتلر في إلمانيا، مع أنّ الفاتيكان كان في الحرب العالمية، البقعة الوحيدة المحايدة في العالم. إنزعجت الكنيسة من هذه التهمة وبعث البابا برسالةٍ جوابية إلى ستالين ينصحه فيها بأن ينسى العمارة الشيوعية الدموية التي يسكنها فوق خريطة العالم. وجاء بعده البابا بيوس ال12 ليوثق عرى الصداقة ويحقق تبادل العلاقات الدبلوماسية مع الدول الغربية والإسلامية (1952).
تابع المهمّة ضد تلك العمارة الشيوعيّة البابا البولوني الأصل يوحنا بولس الثاني (سلف بنيدكتوس السادس عشر) وواضع الإرشاد الرسولي من النافذة اللبنانية وموقّعه، ومتقفّى خطى بولس الرسول نحو روما عبر دمشق التي إعتبرها في خطاب تاريخي له بأنّها" درّة الشرق" قبل أن يداهمها الخراب المسترخي نحو الإستقرار وهي تعود كذلك كما يلحظ. وساهم البابا يوحنا بولس الثاني مع المسلمين وأميركا ودول العالم في إسقاط الشيوعية في الإتّحاد السوفياتي من داخل بعد انهيار جدار برلين تحت المطارق، وعبر صرخات كانت إنطلقت في لحظة عالمية مفاجئة من بين شفتي صاحب الشاربين المعقوفين "ليش فاليسا" عامل النقل البحري البسيط وقائد حركة التغيير في بولونيا في وجه الإتحاد السوفياتي.
3- يفترض التذكير بأنّ زجاج "الكابيلاّ سكستينا" في الفاتيكان مزدانة بنصوص العهدين القديم والجديد وفي كتابٍ مقدّس واحد لا يعبره التاريخ. وتظهر حروف هذا التاريخ محفورة واضحة من جدران صالة ال الرغيا "Sala Regia" لمن يودّ التبحّر من المهتمّين والدارسين في تاريخ علاقات الكنيسة مع الأمم .
إنّنا حيال ميدان معقّد للعاديين وللمؤمنين مع أنّ الميدان يبدو بسيطاً وهادئاً كبساط الثلوج فوق الجبال. عبر هذا الميدان أنصح الغوص كي نفهم أين تقع الإمارات في خريطة الحضارة المقبلة.
4- يحصل استثناء في تاريخ الكنيسة للمرّة الأولى حيث يتراجع الشكل لصالح الروح والإيمان المتداخل مع همّ الحياة والنضال والتغيير، فبنديكتوس السادس عشر النحيل الذي شغل سدّة الفاتيكان وصل إلينا من معاجن المقارعات الفلسفية في أحرام التعليم الجامعي في إلمانيا وغيرها وهي التي أبرزت عمق جذوره العقلانية واللاهوتية وإيمانه العميق وصراحته التي أجفلت المسلمين، وهو لا يفترق قطعاً في بحثه عن العدالة والتغيير والنضال عن سلفه الممتلئ يوحنا بولس الثاني الذي إمتدّ به عقله إلى القول بعقلنة الإيمان في الأديان التوحيدية ، وهو ما هو حاصل ويمكن حصاده مع البابا فرنيسس العاشق للبساطة والحداثة والإستراتيجيات كما للفقراء والبؤساء واللقاءات بهدف تنزيه التوحيدية عن التلوّثات والتشوّهات السياسية.
يمكن للإيطاليين وللعالم معهم أن يعيدوا النظر، إذن، بمثلهم الشعبي المذكور، لأنّ بابا الفاتيكان عندما يكون نحيلاً أو ممتلئاً ، فهذا لا يعني بأنّه يحمل يداً ممدودة يتوق المؤمنون ويتزاركون في صفوفٍ إلى تقبيل الخاتم الذي يبرق في بنصرها.
5-  أخيراً : لا ننسى أنّ بنيدكتوس السادس عشر قد أضاف اللغة العربية إلى اللغات المعتمدة في نوافذ الفاتيكان عند مخاطبة المؤمنين، ولا يمكن لباحث بسيط مثلي، أن يرصد كلّ ما يطمح إليه البابا فرنسيس اليوم عبر الإمارات والإنارات في شبه الجزيرة العربية وغيرها من الزيارات في الشرق والغرب بما يتجاوز ترسيخ الدعوات والإرشادات والقدرات الرسولية الهادفة إلى التئام الجروح بين معتنقي الأديان التوحيدية الثلاثة لفتح الكثير من الأبواب الموصدة بين الشعوب والحضارات والمسلمين والمسيحيين بعدما صار الإرهاب المتنوّع والمتنقّل عنواناً يهدّد الكرة البشرية بالمحق والحروب العالمية في القرن الواحد والعشرين.

 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى